علي الوردي.. وحكايات الآخرين

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

علي الوردي شابٌ عمانيّ أصبح "أيقونة" للرجولة والتضحية والإيثار، رمى بنفسه إلى التهلكة حين خاض غمار الوادي، لينقذ طفلين من براثن الماء الهادر، لم يستغل اللحظة ليوثّق للحدث، ولم يقف مكتوف اليدين وهو يرى الطفلين يتقاذفهما الماء، ولم يركن إلى الكاميرا ليسجّل "ترند"، ويزيد غلّته من المتابعين كما يفعل الكثيرون في مثل هذه المواقف، بل حفر لنفسه مكانا في خانة "الأبطال"، وأصبح حديث الناس، دون قصد منه، ودون تخطيط مسبق، ولكن اللحظات الحاسمة تُظهر معادن الرجال.

ودون شك فهناك الكثير أمثال علي الوردي ضحّوا بأرواحهم لإنقاذ حياة غيرهم، وسطّروا ملاحم بطولية لم يوثقها مسجّل، ولم يرها أحد، ولم تنتشر كالنار في الهشيم كما هو الحال في حادثة "الوردي"، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سيّدة الحدث، حيث ينتشر الخبر بسرعة البرق، ويتفاعل معه الناس بعواطفهم، وأموالهم أحيانا، فكم من حدث مغمور لم يكن لينتشر لولا توثيق الكاميرا، ولولا وسيلة النشر الأكثر فتكا في التاريخ البشري حتى الآن، وهي وسائل التواصل الاجتماعي غير التقليدية التي باتت صانعة للحدث وناقلة له في حد ذاتها.

لا ننسى ونحن نشاهد لحظة انقاذ الوردي للطفلين، أولئك الرجال الأشاوس من منتسبي الدفاع المدني، وشرطة عمان السلطانية، ورجال القوات المسلحة بمختلف تشكيلاتها والذين يرمون بحياتهم كل يوم في وجه الأعاصير، والعواصف، والأمطار، والأودية، وأمواج البحر الهائجة، ويضحون بأرواحهم لينقذوا أسرة تهوّر قائد مركبتها فحاول مناطحة الوادي، أو صيادا جنح به مركبه وسط عاصفة بحرية، أو مزارعا سقط في بئر قديم، أو عائلة علقت بين نيران حريق شبّ في منزلها، وغير ذلك من مشاهد ومواقف لا تُحصر، ولا تُعد كان العمانيّ فيها سواء ـ جنديا أو شرطيا أو مدنيا ـ هو البطل المنقذ، الذي لم يتردد لحظة في مد يد العون لمن هو محتاج للمساعدة.

في المقابل هناك من وقفوا موقف المتفرج الخالي من المشاعر، وتجاهلوا حياة الآخرين، وبدلا من تلبية نداء النخوة والرجولة أمسكوا بهواتفهم ليسجلوا اللحظة، ليكسبوا مزيدا من المتابعين، ويرفعوا رصيدهم من المشاهدات، وكل ذلك على حساب مواقفهم الإنسانية، وشهامة مجتمعهم، فسقطوا سقطة أخلاقية رهيبة، وخسروا أنفسهم، ولك أن تتخيّل: شاب يغرق، أو فتاة تتعرّض للانتهاك، أو طفل يختنق أمام المارة، أو سيارة مقلوبة على ظهرها يطلب فيها الركاب الغوث، بينما يمسك أحدهم بهاتفه ليصور اللحظة، ويوثق الحدث، دون أن يقدّم أي فعل للمساعدة، وإنقاذ الموقف، فأي حقارة يمتلكها مثل هؤلاء؟..وأي رجولة يفتقدونها؟..وأي إنسانية ينتهكونها؟

إنّ زرْع بذور النخوة والشهامة في نفوس الناشئة هو أحد نتاجات هذا المجتمع العماني الذي اعتاد على مد يد العون للمحتاج، والذي وقف وقفات مشرفة في كثير من الأحداث، وحتى التاريخ السياسي يحكي قصصا رائعة عن نخوة العماني، وحكايات مشرقة من حكايات التآخي والتآزر، كان لها أكبر الأثر في السلوك الاجتماعي العام، ولذلك لا بد أن تبقى مثل هذه النماذج الشريفة حافزا لكل الأجيال، وملهمة للشباب الذين هم عدة المجتمع وعتاده، تماما كما كان نموذج علي الوردي وأشباهه مثار الإعجاب والشجاعة لدى الكثيرين، وكما يسجّل رجال القوات المسلحة، وشرطة عمان السلطانية، ورجال الدفاع المدني والإسعاف لحظات لا تُنسى من الرجولة التي يبعثونها كل يوم في وجدان هذا المجتمع العماني الصلب، القويّ بأفراده، ومثله العليا التي لا تموت.