روح اكتشف الدقم

  جمال النوفلي

الأحد الماضي ارتحلت إلى الدقم في مهمة عمل، الطيران الوحيد الذي يذهب إلى الدقم هو الطيران العماني وفي أربعة أيام فقط، تقلع الطائرة صباحا من مسقط وتعود عصرا في اليوم التالي.

كان بإمكاني أن أذهب إليها بالسيارة بمسافة زمنية تصل إلى 5 ساعات تقريبا من العامرات، أو بحافلة المواصلات إلى روي ثم من روي إلى برج الصحوة ثم إلى الدقم، لكنني فضلت السفر بالطائرة لأني اشتقت الطيران؛ ولأنني أمقت القيادة لمسافات طويلة.

في الطائرة جلست إلى جوار رجل هندي من كيرلا، عرّف نفسه بأنه شخصية نافذة في شركة نقل إيطالية، وأنه اعتاد السفر لمتابعة السفن أو الشحن أو النقل في دبي والموانئ العمانية صحار والدقم وصلالة.
كانت الطائرة ممتلئة عن آخرها، تعرفت فيها على عدد من المحامين وأحد أصدقاء النادي، وفتاة عمانية رفيعة القوام صارخة الجمال والأنوثة كانت تأسر قلوب المسافرين. 

عدد من موظفي ومسؤولي هيئة الدقم كانوا معنا، وأخبرني مضيفنا في الطائرة وهو شاب عماني مهندم وكثير النشاط بأنهم لا يقدمون الكحول في الطائرة لأنها رحلات داخلية، ولا أدري لماذا خصني أنا بالذات بهذه المعلومة دون غيري أم أنه حقا يُخبر جميع الركاب بها، كان معنا رئيس محكمة وعدد من القضاة ورجال الأعمال، أخبرني الأستاذ عبدالله وهو أحد المحامين المسافرين على متن الطائرة أن رئيس المحكمة يأتي أسبوعيا أو شهريا إلى الدقم ليعقد جلسة المحكمة ثم يعود إلى مسقط، لهذا تجد الخصوم والمحامين جميعهم في نفس الطائرة، فقلت له مازحًا: لماذا لا تعقدون الجلسة على الطائرة إذن؟!

بجواري كان يجلس شخصان استرقت السمع لحديثهما وفهمت أن أحدهما مسؤول في الهيئة والآخر هو الرئيس التنفيذي لشركة كروة لصناعات الحافلات، وأصبتُ بالدهشة والسعادة لهذه الفرصة ومن فرط سعادتي وقفت وحييتهما وشكرتهما، وبينت لهما أن سبب سعادتي هو أنني بجوار شخص يرأس شركة ناجحة نجاحًا حقيقيًا، ربما أكون قد تحمست وبالغت كثيرًا، لكنني  اعتبرته نجاحا حقيقيا لأننا ومنذ بداية النهضة نحلم بأن نرى سيارات أو دراجات أو مركبات أو أجهزة إلكترونية من صنع عمان، كنا نحلم بذلك ونحلم أن نرى الصناعات العمانية تستخدم وتنتشر في أنحاء العالم، شيء يدعو للفخر، وقد تحقق حلمنا من خلال صناعة وإنتاج هذه الحافلات العمانية القطرية.

وبعد أن أنهيت خطبتي وثنائي عليه أخبرني بأن الحلم لم يتحقق بعد فهم لم يبدأوا مرحلة البيع، "لكن لم يبق إلا القليل يا أستاذ جمال، بضعة أيام وتدشن الشركة اول إنتاج لها من الحافلات والذي سيُصدر إلى قطر لاستخدامها في كأس العالم المقررة في نوفمبر المقبل، وقد جئت خصيصا من مسقط للاحتفال بهذه المناسبة".

فرحت كثيرا وفرح جميع من على متن الطائرة بهذه المناسبة.    

وصلت الطائرة إلى الدقم بعد ساعة من إقلاعها، ومطار الدقم مطار حديث وجميل جدا على أفضل المعايير وأروع التصاميم  يشبه مطار صلالة ومطار مسقط لكنه صغير جدا، في الخارج لم أجد السيارة التي حُجزت لي فأوصلني المحامي عبدالله إلى مقر إقامتي في فندق كروان بلازا. الأجواء خارج المطار باردة لكنها مغبرة قليلا ، وكنا نقف في الشمس الساعة 9 صباحا بشكل مريح دون أن ننزعج من سطوعها أو دفئها. 

وفي طريقي إلى الفندق رأيت مبانٍ كبيرة أشار عبدالله إلى أضخم المباني وقال لي إن هذا المبنى هو مبنى هيئة المنطقة الاقتصادية بالدقم وهذه الهيئة هي المسؤولة عن كل شيء في الدقم من تطوير وإدارة وقوانين وتنظيم وغير ذلك، وكأن الدقم مدينة مستقلة إداريًا بذاتها والهيئة مسؤولة عنها، حتى اللوحات الإرشادية في الطرق تختلف عن باقي لوحات طرق السلطنة. وهذا جميل جدا. 

أما في الفندق فإنك سوف تعيش تجربة فريدة من الهدوء والراحة، موظفو الاستقبال من الجنسيات المختلفة يبثون السعادة في نفسك فور وصولك، كانت هناك أيضا فتاة عمانية من ضمن فريق ادارة الفندق قالت لي إنها متدربة على رأس عملها وإنها في بداية مشوارها الوظيفي "يعني راح اكون موظفة رسمية معهم في هذا الفندق بعد شهر تقريبا" قلت " مبروك" ، كانت هي سعيدة أيضا بوظيفتها ومجتهدة في عملها ويبدو أن أهلها أيضا سعيدون بحصولها أخيرا على وظيفة في شركة مرموقة بعد طول صبر وعناء على الرغم من بعد المسافة حيث إنها من سكان مسقط.  أخبرتها أنني أزور الدقم لأول مرة فما هي المعالم الاقتصادية والسياحية التي من الواجب علي زيارتها، فنصحتني بزيارة صفحة في الانستجرام اسمها اكتشف الدقم قالت لي إنها صفحة مشهورة في الدقم ومهمة وفيها سأجد ضالتي من الصور والارشادات وأهم المناطق السياحية والاثرية والاقتصادية، أخبرني لاحقا صديقي صالح المعمري أن هذه الصفحة هي إحدى المنصات الاجتماعية التابعة لتطبيق "اكتشف الدقم" وهو تطبيق هاتفي أعدته الهيئة للترويج عن الدقم.    

طوال اليوم بقيت في الفندق ماشيا على الشاطئ أو غاطسا في حوض السباحة المنعش أو مسترخيا بين الأشجار الوارفة ونسيم بارد يداعب عصافيرها أو متحدثا مع العاملين والعاملات في الفندق. التقيت بعدد من الشخصيات التي كانت تعمل بجد استعدادا للحفل الذي سيقام في إحدى قاعات الفندق يوم الخميس. 

الدقم عبارة عن ماكينة إنتاج ضخمة تعمل دون توقف، في الليل جاءني أخي حسين أخبرني أنه لم يستطع أن يأتي إليّ صباحا لأن الشركة الإنشائية التي يعمل لديها تحاول الإسراع في إنجاز مشاريعها في الميناء وتسليمها في الوقت المحدد، لهذا هم يعملون بجد ليلا ونهارا ويقصرون من إجازاتهم.

زارني أحد أصدقائي في السوشيل ميديا واسمه معن لم ألتق به من قبل؛ شخص طيب معتد بنفسه ونشيط واجتماعي جيدا، حدثني كثيرا عن نفسه وقصة حياته وكيف أنه ترك السويق وانتقل للعمل والعيش في الدقم لما فيها من حياة هادئة واستقرار وفرص استثمارية كبيرة، حتى إنه نقل طلب أرضه من السويق إلى الدقم، يقول لي إن الدقم هي مستقبل عمان ومستقبل الخليج الصناعي والتجاري وهناك مشاريع كثيرة جارية لم تر النور بعد.

أخذني في جولة ليلية ناحية الحوض الجاف والميناء، كانت اضواءها الصفراء تشع كالجواهر، وعدد كبير من الثعالب والأرانب والسحالي تجول ليلا في الارجاء، وانبهرت من حسن التنظيم والطرق الواسعة والأعمال المستمرة دون توقف في الميناء، أما مركز المدينة فهو مدينة القدم الاصلية وقد هجرها أغلب أهلها وهم من الصيادين ورعاة الإبل إلى أماكن بعيدة استغلالا للعائد المادي الكبير الذي يتحصلون عليه من خلال تأجير منازلهم، هذه العوائد تغنيهم حتى عن الحصول على وظائف، بعضهم بنى له منازل كثيرة وبنايات لذات الغاية والبعض منهم استغله التجار والسماسرة وباع بسعر بخس، لكن الطلب قل بعد جاهزية بعض المشاريع الانشائية الكبيرة ومغادرة الشركات وعودة العمال إلى أوطانهم، تناولنا العشاء في إحدى المطاعم الصينية المنتشرة هناك، لم يكن هناك أي طعام صيني في المطعم، أخبرني صديقي بأنه في فترة ما كان عدد الصينيين يفوق عدد باقي الجاليات حتى الهنود والبنجال، لكنهم ذهبوا جميعا وبقيت آثارهم.

في طريق عودتنا أخبرني بأنه يدير حسابا اسمه "هنا أخبار الدقم"، وفي هذا الحساب تجد كل ما يحصل في الدقم ساعة بساعة من فعاليات وأخبار وأحداث، وهو مُتابَعٌ من معظم أهالي الدقم ومن لديه ارتباط بها.   

في صباح اليوم التالي أقلني صاحب تاكسي لإنهاء مهمة العمل التي جئت من أجلها، وأخبرته أن يأخذني قليلا إلى لزيارة حديقة الصخور الشهيرة، قال لي : "إيش تبالها حديقة الصخور ما فيها شي غير سيح أجرد وحصى، ما اعرف كيف يسموها حديقة".  قلت له: "هذه الحديقة عمرها 46 مليون سنة والحصى الذي فيها يتشكل بسبب العوامل الطبيعية على هيئة تماثيل من الحجر".  قال لي: "ماشي منه هذا الحكي لكن بوديك كان تبا". ومضينا بالسيارة نطوف في الحديقة ببطء، الرمال في الحديقة بيضاء، والصخور فعلا كانت تتكشل على صور عجيبة أقرب إلى هيئة الحيوانات أو الاشجار أو الاشكال الهندسية الجميلة أو أي شيء يخطر ببالك، ولكي ترى أكثر فإن عليك أن تترجل من السيارة وتتمشى فيها وتتأمل، فمع التأمل يمكنك تخيل أشياء جميلة جدا وتستمع بالنظر إليها. 

قال لي صاحب التاكسي إن هذه هي مرته الأولى التي يأتي فيها إلى حديقة الصخور.    

وهكذا أنهيت أعمالي في الدقم وعدت إلى العامرات وأنا سعيد بهذه التجربة وأدعو جميع الأصداقاء والمتابعين لزيارتها والاستمتاع بشواطئها ومطاعمها التي تقدم المأكولات البحرية الطازجة واللذيذة.