"الأزهر" فى قلب المعركة مع التطرف

 

 

د. رفعت سيد أحمد

مرة إثر أخرى يضربُ الإرهاب بخسَّةٍ في مصر والبلاد العربية، يضرب المدنيين والمنشآت المدنية منذ 2011م وحتي اليوم، ويحاول أن يضرب قوى الجيش والشرطة في غدر مشهود له به؛ هذه الضربات الجبانة تستدعي ليس فحسب ردًّا من الجيش والشرطة -وهو قائم ومستمر بشجاعة وتضحية- بل من رجال الفكر ومُؤسسات الدعوة ليبينوا للأمة شذوذ عقيدة هذه التنظيمات المتطرفة وخروجها عن صحيح الدين.. وهنا يأتي الأزهر بدوره التاريخي المشهود؛ ليدخل وبقوة معركةَ المواجهة لضلال الفكر المتطرف، وهو دور قديم للأزهر الشريف، آن له يتجدَّد هذه الأيام وبقوة.. وفي هذه المقالة، نحاول أن نقترب من هذا "الدور" بأبعاده التاريخية والدعوية والسياسية، فماذا عنه؟!

*****

بدايةً.. يُحدِّثنا التاريخ أنَّ الأزهر الشريف قد تميَّز بما تميزت به الشريعة الغراء من وسطية واعتدال، يقول الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس". كما تميَّز الأزهر بالبُعد عن الغلو والتعصُّب الممقوت والتشدُّد المنفر الذى ظهر فى هذه الأيام على أيدى الإخوان والدواعش. وتميَّز الأزهر بالبُعد عن رمي الناس بالكفر أو التبديع أو التفسيق، فكانت الدقة لدى علمائه فى وضع النصوص فى مكانها ومعناها الصحيح، فلا تُستخدم أية -نزلت فى الكفار- فى مُحاربة المؤمنين وإخراجهم عن ملة الإسلام. فهذا ما لجأ إليه الخوارج فى كل عصر وزمن، وقد وَرَد عن عبدالله بن عُمر -رضى الله عنهما- أنه قال: "شرار خلق الله الخوارج، عمدوا إلى آيات نزلتْ فى المشركين فجعلوها فى المسلمين"، وقال ذلك ابن عباس أيضا، كما ورد فى بعض الروايات.

وهذا التميُّز، وكما قلنا من قبل، إنما هو منهج العلماء الثقاة، فقد ورد عن الإمام مالك قوله: "لو سمعت الرجل يتفوه بالكلمة تحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها وتحتمل الإيمان من وجه واحد، حملتها على الإيمان".

وتميَّز الأزهر بالتمسُّك بالدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بما هو أحسن، يقول الله عز وجل: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل: 125).

وتميَّز الأزهر كذلك بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى رفق ولين، والتزام بما أمر الله به فى قوله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104).

كما تميَّز الأزهر بأنَّه لا يحكم على الناس بالظن، وإنما يقدم حُسن الظن؛ التزاما بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنى لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم"، والتزامًا أيضًا بما بينه فى حديثه العظيم الذى قام عليه جل الدين الحنيف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".

*****

وفى عهد فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقبله بمئات السنين، تميَّز الأزهر بتبنى الوسطية فى أمور كثيرة، كما تبنَّى الاعتدال فى الآراء فى أمور عديدة؛ فسار على منهج السلف الحق، ومنهج الجمهور من العلماء.

وظهر هذا فى قضايا الحج وفتاواه كما تبنَّى التيسير فى قضية الحجاب، وبنى رأيه فى النقاب بعدم اعتباره فرضا على ما ذهب إليه جمهور العلماء أيضا، كما تبنى رأيه فى الزكاة خاصة زكاة الفطر؛ حيث تبنَّى رأيه الذى ذهب إليه الخلفاء الراشدون والبخاري وسعيد بن المسيب والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة...وغيرهم ممن ذهبوا إلى جواز إخراج القيمة فى هذه الزكاة، تيسيرًا على الناس ووصولًا لمصالحهم التى تقتضى أن تكون كذلك.

وهناك قضايا كثيرة تبنى فيها الأزهر الرأى الراجح لدى الجمهور، أو الرأى الذى يرونه ميسرا لمشاق الحياة، ولم يخرج عن هدي الشريعة وأقوال الأئمة من الفقهاء المعتمدين.

ومن الجدير بالذكر أن نتكلم أيضًا عن التعليم الآزهرى، حيث إن هذا التعليم -المتنوع والدارس لكافة الآراء، والمنفتح على التراث الدينى العظيم- هو الذى يؤدي بالطلاب -الذين سيصبحون علماء فى المستقبل- إلى هذا الأسلوب الدعوى الجميل.

هذا التعليم الأزهرى متنوع؛ فبدءًا من التعليم الثانوي، والذي يسبق الجامعة يتعود الطالب على دراسة المذاهب المختلفة فى دراسته للفقه، فيدرس الفقه على المذاهب الأربعة. وفى الدراسة الجامعية يتعرض الطالب لدراسة المذاهب الفقهية الثمانية، الأربعة السنية (مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل)، إضافة إلى مذهبين من مذاهب الشيعة (الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية)، كما يدرس أيضًا مذهب الأباضيّة، كما يدرس مذهب الظاهرية (وهو مذهب داود الظاهرى، ثم ابن حزم والذى تجلى فى كتابه "المحلى"). كما يدرس الطالب المدارس والمذاهب الكلامية المختلفة، كالأشاعرة، والماتريدية (وهما قد أسَّسا مذهب أهل السنة)، والمعتزلة (وعلى رأسهم واصل بن عطاء الذى اعتزل الحسن البصري وكوَّن مذهبه الكلامي، وهؤلاء المعتزلة كان لهم الفضل فى دحض آراء المُلحدين فى بداية نشأتهم وعبر العصور المختلفة).. إذن؛ يتعرف الطالب على هذا كله مع معرفته ترجيح الآراء.

ومن هُنا، فالطالب فى الأزهر معرفته متنوعة، ويتعود منذ نعومة أظفاره على رؤية الاختلافات الفقهية التى نشأت، أو هذا ما يجب أن يكون ويستمر. وهذا التنوع والتعرف على الاجتهادات المختلفة للعلماء والفرق المختلفة، يجعل الطالب مستعدًا لقبول الرأي الآخر، ودراسته، ومناقشته، ومجادلته، ورده بالأدلة والبراهين، أو ترجيحه؛ فيكون مهيئًا لهذا، ويكون عنده رؤية متكاملة عن الأمور.

الأزهر قديمًا كان له دور بارز فى وحدة الأمة، وفي لم شمل المسلمين على مرِّ العصور، ويسعى لترك الفرقة، وصولًا للوحدة التى حثّ عليها القرآن الكريم، والتى حض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الأزهر على طريقة السلف الصالح يرفض التكفير الذى يُهدد الأمة، وينال من وحدتها، ويُفْرِح أعداءها؛ فهذا ما يريدونه فى تفريقنا المعنوي والفكري والمذهبي بعد أن سعوا لتفريقنا الحسي إلى دويلات.

والأزهر منذ إنشائه يسعى للتقريب، وذلك كما مثّلنا سالفًا هو يقوم على التنوع فى دراساته للآراء والمذاهب المختلفة، كما سبق أن ذكرنا، وفى ذلك محاولة للتقريب، فدراسة المذاهب والاطلاع على الآراء المختلفة يعطى هذه الفرصة للتقارب لا للتشاجر.

وقد أنشئت فى الأزهر منذ الأربعينيات من القرن الماضي دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكانت فى حينها ثورة في الفكر والسلوك الديني والدعوة، وما أحوج الأمة اليوم إلى ثورة مثلها!

*****

ويعلم الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب جيدًا أنَّ الأزهر كان قائدًا فى مجال الدعوة لوحدة الأمة، وأنه كان رائدًا من رواد مواجهة فكر الغلو والتطرف؛ لذلك يسعي هو وصفوة العلماء والدعاة اليوم إلى بعث هذا الدور مجددًا.

هذا ويذكِّرنا التاريخ فى مجال فقه الوحدة الإسلامية بتلك الفتوى الشهيرة للشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق، بأنَّ المذهب الشيعي الجعفري يعد مذهبًا خامسًا يجوز التعبُّد به كبقية المذاهب الإسلامية.

وهذه الفتوى أنارتْ الطريق أمام الذين يسعون للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وإلى وحدة المسلمين فى كل مكان، وقد أيَّد كثيرٌ من علماء الأزهر هذه الفتوى التي قال بها الشيخ شلتوت، ومن هؤلاء العلماء شيخ الأزهر الحالي.

وعلى النسق ذاته، أتت فتاوى رفض العنف والغلو الداعشي والإخواني، والتي تُطالب الأمة كلها أزهرنا الشريف بزيادة وتيرتها، ونشر دعوتها على أوسع نطاق؛ لأن كلمة الأزهر مسموعة ومقدرة من الأمة كلها، وآن لها أن تدوِّي مُجددًا ضد غلاة الفكر وشُذَّاذ الآفاق من التكفيرين والإرهابيين، الذين لم يسيئوا للوطن فحسب؛ بل أساؤوا إلى الإسلام ذاته.