الجديرون بالشفقة

 

 

عبدالله الفارسي

 

كنت جالسًا مع مجموعة من الزملاء ندردش ونثرثر فذكروا قصة أحد أصدقائنا المعلمين، زميل لنا تعرض لتغيير جذري في حياته بأكمالها بسبب انتكاسة في حالته العقلية، البعض قال إنه أصيب بضربة ساحر لعين، والبعض قال إنها عين حاسدة حاقدة وما أكثرها معنا! والبعض منهم أرجعها لنوبة عصبية وحالة نفسية لدرجة كارثية.

وإن تعددت الأسباب؛ فالنتيجة واحدة! فقد فقد زميلنا جزءًا كبيرًا جدًا من ذاكرته وجزءًا هائلًا من عقله، فتم إحالته للتقاعد الطبي. الحمدلله أنه كان أعزبًا ولم يتورط في دخول القفص الذهبي اللؤلؤي الفظيع، وإلا لكانت النتائخ وخيمة، وهو حاليًا في وضع حياتي طبيعي يتحرك بشكل طبيعي جدًا ويأكل وينام بشكل طبيعي.

تناقشنا نقاشًا صاخبًا في حالته ووضعه، واختلفنا في تعاطفنا مع وضعه فأغلبهم استصعبوا وضعه واستعسروا حالته وأشفقوا على واقعه. بينما أنا اختلفت معهم كلهم مؤكدا لهم: أن وضع زميلنا ممتاز جدًا وليس لديه أي مشاكل الان. قلت لهم: "هو الآن في أفضل أوضاعه الصحية إنه بخير تمامًا". زميلنا يعيش حاليا بذاكرة جديدة تمامًا ذاكرة جديدة خفيفة بعد تلاشي وتآكل ذاكرته القديمة العقيمة وهذه نعمة في حد ذاتها.

زميلنا يتعامل الآن مع الواقع بربع عقل وربما أقل وهذا يكفيه جدًا ليعيش في هدوء وراحة بال لا ندركها نحن الذين يحملون في رؤوسهم ذاكرة مزعجة ومؤلمة ويتجولون في شوارع الحياة بعقل كامل وتفكير ناضج ووعي مشتعل صاخب يحرق أرواحنا ويفتك بصدورنا.

إنني أخالفكم الرأي أيها الزملاء!

ثم وقفت فيهم متحدثا متشدقًا مؤكدًا لهم أن زميلنا الذي تشفقون عليه هو في حالة أفضل من حالتنا؛ بل أنا وأنتم من يستحق الشفقة. فزميلنا ليس لديه هموم يفكر فيها كهمومنا؛ ليس لديه أولاد يوترون جهازه العصبي ويلطمون صدره وجهازه النفسي، إنه لا يحزن لواقعهم المقرف ولا يتألم لغدهم المجهول ولا يفكر في مستقبلهم  المظلم، زميلنا ليس لديه عمل يعاني بسببه أو وظيفة يهان فيها أو ديون بنكية يغلي غما بسببها.

إنه يعيش خارج هذا الواقع الأسود المزري الذي نتمرغ فيه.. إنه خارج التغطية تماما.. إنه لا يلتقط إلا إشارات إحتياجاته البيولوجية فقط.

إنه لا يكترث بما نكترث به، إنه لا يشعر بما نشعر به، إنه لا يتوجع بما نتوجع به، إنه لا يهتم بما تقوله نشرات الأخبار المقرفة، ولا يستوعب ما يتداول في تويتر اللعين وفيس بوك التعيس. إنه يعيش عالمه الحسي الخاص به.. يتناول وجباته الثلاث بانتظام دون أن يضطر إلى التفكير في أسعارها أو طريقة طبخها؛ فهناك من يقوم بتوفير ذلك له ورعايته.

إنه لا يفكر في شؤونه الخاصة فهناك من يتكفل بها ويقوم بتوفيرها له، إنه يعيش في عالم مختلف تماما عن عالمنا، ويمارس حياته بمشاعر تختلف عن مشاعرنا وبعاطفة تختلف كلية عن عاطفتنا.

كل أفراد أسرته يعتنون به.. يخدمونه صباح مساء ويعيش بينهم معززا مكرما.

وفي منتصف المساء وبعد وجبة العشاء يتناول مجموعة من الحبوب التي تعتني بجهازه العصبي وينام بعدها قرير العين دون شخير أو كاوبيس ولا يفكر في طارق ليل يطرق عليه بخير أو بشر.

وفي نهاية كل شهر تأخذه سيارة جميلة إلى مستشفى المسرات العظيم  لجلب (جرعة السرور) الشهرية. ويعود ليواصل حياته برتابة أليفة وروتين ثابت.

أليس هذا مدعاة للغبطة.. إنني أغبط هذا الزميل العزيز!!!

وهنا أتذكر المثل الدارج الشهير "ما مرتاح إلا اللي من العقل خالي". والذي يؤكده بيت المتنبي الشهير "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله // وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".

زميلنا ينعم بهدوء وسكينة لا يشعر بفقدانها إلا الأصحاء وأصحاب العقول.. إنه نعيم انطفاء العقول الصاخبة.. إنها متعة تلاشي الذاكرة الحارقة.

أيها الأصدقاء: لا تعتقدوا أبدا أن العقل مصدر سعادة، ولا تظنوا أن الوعي مصدر بهجة، إنها من أكبر مصادر التعاسة.

لقد عاش العقلاء عبر التاريخ تعساء أشقياء، وعاش الأذكياء في ألم ونصب وعذاب، كما عاش أصحاب القلوب الرقيقة والأرواح المرهفة.. في معاناة ومكابدة وبؤس وجحيم ونحاسة وتعاسة.  

ولم يكسب جولات الحياة الحقيقية سوى أصحاب العقول الخفيفة المنطفئة.

أصدقائي: زملينا بعيد كل البعد عن واقعنا. إنه لا يرى ما نراه من القبح ولا يشعر بما نشعر به من القلق و الفوضى والعبث.

زميلنا ينام قرير العين كرضيع.. ويحلم كطفل صغير!

إنه يعيش في استرخاء وسكون. وأنتم من تعيشون في الجحيم والصخب والضجيج؛ لذلك نحن الجديرون بالشفقة وليس هو!!