رواسب.. وعلاقات!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"العلاقات الإنسانية تكون في ذروة جمالها عند حد معين، لكنها تنتكس جداً عندما تتجاوزه" عبد الله النعيمي.

--------

تتأقلم النفس البشرية مع مظاريف الصدف وتوبيخ مرتبطات الحياة، شتان ما بين حال وأحوال، أحيانًا تشعر وكأن الدنيا بأكملها عصفور تداعبه بين يديك، وأحيانًا كثيرة تشعر أنك ولا شيء، لاتساوي شيئًا، ولا تملك قيمة مقدار ذرة في موازين الحياة، لا أحدثك عن فلسفات، ولا عن دعاوى ضد الدنيا ولا عن إنسان عاثر الحظ يشكو حظوظ الزمان الشحيحة؛ بل أحدثك عن الإنسان الذي هو الإنسان فقط!

للبدايات كواليس، ولأوسط الظروف ظروف، وللإنتهاءات نهايات، وهنا وبالضبط تبدأ شخصية الإنسان الحقيقية بالظهور؛ فالبداية العاثرة المرتبكة قد يعتبرها البعض فألًا بلون السواد القاتم، كعلامة لأيام بؤس منتظرة، وأوسط الظروف تشبه من يركب سيارة جديدة وتتوقف بنصف الطريق بسبب نقص الوقود. أما ظروف النهايات فهي الظاهر الأهم لشخصية الإنسان. أذكر أنني أسمع كثيرًا عن أحاديث النهايات والفراق والوداع والموت، لكل حدث نهائي ظروفه المختصة المختلفة عن الظروف الأخرى، كان الناس في قديم الأيام عندما يفترق الأحبة أو الأصدقاء أو الجيران لاينسون عبارة: "استر على ما واجهت، بمعنى أدق: اذكر حسن أعمالي، وتجاوز عن أي سوء ارتكبته، وهي عادة راقية ومقدرة عند الناس، ولها أثر كبير في النفوس.

صحيح أن خيبة الأمل مؤثرة، وبالتأكيد تُفقِد الإنسان حافز التواصل، إنما هناك نقاط يتعين حسبانها، ووضعها بالاعتبار؛ فالبعض مكبل بقيود حديدية تكاد لا تحتمل، والعذر للأحباب -أو على الأقل- احتسابه واجبا إنسانيا. قد لانعرف أو نفهم ظروف البعض، الناس ليسوا ملزمين بشرح الظروف لأي شخص، هناك خصوصيات لها وجوبية الاحترام، ورحب التقدير.

تفاصيل الحياة بها صفحات كثيرة عن العلاقات الإنسانية، وتبعاتها، والحكايات أكثر مما تحصى، ومن أهم الدروس المستخلصة التي يتعلمها الإنسان هي وضع المسافة في العلاقات؛ فالعلاقة أيا كانت لا بُد من نقطة تتوقف عندها، حفظا للود وتقديرا لمآلات قد لا يعلمها طرفي العلاقة؛ فقد تكون هذه المسافة الفاصلة هي من يجمع شتات العلاقة بحال حصل الشتات -لأي سبب- قرأت للمفكر المصري العربي الدكتور مصطفى محمود ما يلي: "حفظ المسافة في العلاقات الإنسانية مثل حفظ المسافة بين العربات أثناء السير، فهي الوقاية الضرورية من المصادمات المُهلكة"، انتهى حديث الدكتور مصطفى محمود، هل هناك أبلغ من ذلك؟

لأي سبب قد تنفصل عرى علاقة ما، قد يكون بسبب حقيقي، وقد يكون -أيضًا- بسبب سوء الفهم. والإنسان الذي يحمل في نفسه الرقي، يبقي الغلاف مغلقًا حال انتهاء العلاقة، فما فات فات وانتهى، وليبحث عن ضوء يتحدث عنه ويتجاهل دامس الظلام بالعلاقة، وحدهم الطيبون من يفهم ذلك ويقدر ذلك، ويتعامل وفق ذلك.

بالتأكيد رغم أن كثيرا من العلاقات في حياتنا تبدأ وتنتهي بسرعة بسبب نشأتها لظروف العمل الذي ينهيه الزمن، أو صدفة الجوار في السكن، أو حتى نشأة العلاقة نتيجة اهتمامات أو هوايات جمعت قوى هذه العلاقة، إنما لايبقى سوى طيب الذكر. الذكرى الحسنة هي الني ستخلد ماضي العلاقة، وتفرز الغث من السمين في الطباع لكل إنسان.

والافتراق وارد في أي علاقة إنسانية، إنما الأهم هو الأثر الطيب الباقي منها؛ فلنبقيه جانبًا صالحًا دومًا للاستخدام. جميل جدا عندما تتقابل مع صديق قديم افترقتما لأي سبب، ثم تكون الابتسامة والود هما عنوان اللقاء.

الحياة ليست إلا مرة واحدة، فلا نخدشها بالسواد، حتى الافتراق المقتدر بالتلميح أفضل من الفراق المباشر. حفظ الود فيه حكمة.

في جزء من نص شعري للشاعر الألماني برتولت بريخت يقول :

كم أود أن أكون حكيمًا

في الكتب القديمة يتجلى الحكيم

ابق بعيدًا عن نزاع العالم

واقض عمرك القصير دون خوف

وعش حياتك أيضًا دون عنف

رد على الشر بالشر

لاتحقق أمنياتك.. تجاهلها فقط

وهذا من صميم الحكمة

إلا أني عاجز عن أي شيء من ذلك

حقًا.. أنا أعيش في الأزمان الحالكة !

 

إن الحقيقة الباقية في العلاقات الإنسانية أننا مهما طال بنا الزمن، أو مهما كانت ظروفنا المعيشية أو الاجتماعية، إلا أننا لانختلف حين نرى الحقيقة الباقية أن كل ما مر بنا قد ينتهي إلى نفس النهايات، أو نفس الحقيقة الباقية وهي الموت والحياة؛ لذلك حين نسترجع شريط الذكريات لقريب أو صديق توفى، وكنا على خلاف معه، نجد المعنى الحقيقي لثقافة العلاقات، وأن هذه الحياة يجب أن لا نعيشها أو نحولها إلى جحيم بتكبرنا في علاقتنا المتوترة، والتي تسودها الأنانية المزيفة، ونكران نعيم العلاقات الإيجابية مع الطرف الآخر. الحياة قصيرة للغاية، لا تستحق الحقد، الحسد، النفاق وقطع الأرحام، غداً ستكون ذكرى فقط.

ابتسموا وسامحوا من أساء إليكم؛ فالجنة تحتاج قلوبًا سليمة. ويبدأ الإنسان في الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه، وذلك من خلال العلاقات الإنسانية الصادقة المحبة للخير والعطاء. يقول تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ" (الرحمن:26).