ريفيٌّ في جامعة السلطان قابوس (1-5)

 

 

علي بن سالم كفيتان

كان الالتحاقُ بجامعة السلطان قابوس حلمًا بعيدَ المنال، خاصةً لمن لم تكن الظروف مُواتية لهم من حيث الوضع المعيشي والحياة المستقرة؛ كسُكَّان الأرياف والبوادي، لكنَّ المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- كان يعلم ذلك جيدًا، فخصَّص لهؤلاء وللقادمين من ولايات بعيدة ما يُعرف بالسكن الداخلي في صلالة قُرب المدرسة السعيدية؛ لتوفير البيئة المريحة والهادئة للتعليم، كما عملتْ تلك النظرة الثاقبة على تكريس مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع من حَضَر وأرياف وسكان البادية، فبدتْ الجامعة كفسيفساء جميلة جمعتْ كلَّ أطياف أبناء عُمان، وأخرجتْ قيادات شُهد لها بالكفاءة والإخلاص.

كان القائد الراحل -رحمه الله- ينظرُ ببصيرة ورحمة لكل عُماني؛ لذلك أخذ معه الجميع إلى آخر المِضْمَار، وعمل بكل ما يستطيع لتمكين المجتمعات في الأرياف والبوادي لتتساوَى الفرص مع الحواضر؛ فرأينا فيما بعد داخل مفاصل الدولة رجالًا ونساءً من رؤوس الجبال في مسندم إلى أقصى نقطة في جبل القمر بمحافظة ظفار. وكان السلطان قابوس ينظر للجميع بعين واحدة وقلب واحد؛ فانتخب لعُمان خيرتها وأصفياءها، ومَنَح نفسه الحقَّ الكاملَ لتعديل الكفة، فوجدنا بين جنبات الجامعة طيفًا واسعًا من البشر والثقافات وحتى اللغات واللهجات والمذاهب؛ فبدت لنا عُمان للوهلة الأولى ونحن في قاعة المؤتمرات بكراسيها الحمراء وسجادها المتوهج شيئًا مختلفًا عمّا كنا نتوقعه، واكتشفنا الوطن الكبير، وتأقلمنا مع القادمين من اصقاع بلد أنهكته الصراعات والحروب والثورات.. لقد كُنا في ذلك النهار البهيج كبقية أراد لها السلطان الراحل حياة مختلفة.

قدمنا بحيائنا وتحفظاتنا وخوفنا، وبكل العُقَد التي رأيناها وعشناها في مجتمعاتنا البسيطة، إلى رحاب الجامعة، لم نَكُن نمتلك المال ولا ندري ما الجامعة، ولا كيف ستكون الأمور، كلُّ ما يجمعنا هو إيماننا العميق بالله وحبنا العظيم لقابوس، وولاؤنا المطلق لعُمان، فقد أحسن السلطان قابوس غرس المبادئ النبيلة على حطام الخوف والعدم، وأنبت حبًّا عظيمًا سيظل قائمًا مع كل تلك الأجيال إلى الأبد.. وتنتابني نوبات حزن عميق وبكاء أحيانًا عندما أذكر تلك اللحظات.

رنَّ الهاتفُ في بيت ابن عمي "سهيل"، فتناديني زوجته -رحمها الله- أنَّ هناك مُتصلًا يسأل عني، وكان على الطرف الآخر السيد علي بن سالم الحداد من إدارة التعليم بظفار؛ ليُخبرني بأن موعد سفري إلى مسقط سيكون الجُمعة المقبل، وعليَّ الحضور لمكتبهم في الحافة في أقرب وقت لاستلام التذكرة وبطاقة دخول الجامعة. وأذكر أنَّني من شدة الفرح انطلقت مسرعًا للشارع العام وأخذت سيارة أجرة، وطلبت من الرجل توصيلي لمكتب التربية والتعليم، وكان السائق مُتقدمًا في السن ويسير ببطء شديد، فاتحًا قلص قميصه ويحك رأسه وينظر في جميع الاتجاهات، علَّه يحظى براكب آخر، بينما كنتُ أنا في عجلة من أمري، فالوقت اقترب من الظهيرة، وعند وصولنا ناولته نصف ريال وانطلقت بخفة إلى داخل المبنى.. استقبلني في الممر الأستاذ الجليل عوض بن عيسى الشيخ، وأرشدني لمكتب السيد علي الحداد -رحمه الله- فكان رجلًا بشوشًا ومرحِبًا، وبعدها ضحك وقال: "ما شاء الله عليك، جيت بسرعة!!" ودس يده في درج مجاور ليُخرِج تذكرة طيران الخليج وبطاقة صغيرة من الكرتون المقوَّى عليها شعار الجامعة، ومكتوب عليها اسمي، وقال لي: "هذه تُبرزها لحراس البوابة ليدخلوك، وكل الأمور مرتبة بإذن الله".

كانتْ لديَّ بضعة ريالات، فذهبتُ راجلًا إلى سوق الحصن المجاور؛ حيث اشتريتُ حقيبة "سامسونايت" حمراء تُفتح بالأرقام، وكان البائع الآسيوي يمتدحها كثيرًا، فيُغلقها ويفتحها فتُصدِر فرقعة تُشبه تعمير البندقية. وبعدها أخذتْ لفَّة للتبضع وشراء مستلزمات السفر، وفي الزقاق المجاور لسينما الأحقاف، وجدتُ شابًا كان معي في السكن وقُبل في الجامعة، فجلسنا إلى محل بيع قصب السكر، وتناولنا أطرافَ الحديث قليلًا، فنصحني بشراء أشياء لم تكن في بالي مثل المنشفة (فوطة) ومعجون الأسنان وهو يقول مبتسمًا: "هناك ما شي فحم"!!! لقد كان خفيفَ الظل وصاحبَ نكتة، فأعجبتُه الحقيبة، وذهبنا معًا للمحل واشترى مثلها، لكنَّه كان مُفاوضًا صعبًا فحصل على سعر تفضيلي.

لملمتُ أغراضي في الحقيبة، ووقفتُ مُنتصبًا على الشارع المكتظ، فوقفتْ لي سيارة أجرة يسوقها شاب، فصاح قائلًا: "تفضَّل"، وسألني: "أين وجهتك"، قلت له: "عوقد"، فانطلق مسرعًا على عكس الرجل الذي لقيته في بداية النهار، وما هي إلا بضع دقائق حتى وصلت بيت أبي محمد؛ حيث يلتقي الجميع... وللحديث بقية.