القرارات المرتقبة للوزراء الثلاثة

 

 

د. عبدالله باحجاج

عُقِد، مؤخرًا، لقاءٌ جَمَع وزراء المالية والثروة الزراعية السمكية وموارد المياه والإسكان والتخطيط العُمراني، بالجمعية الزراعية العُمانية المُمثِّلة لكافة المزارعين في مختلف المحافظات، وكل من حضر الاجتماع وصفه بأنه كان إيجابيًّا، ويتطلع لقرارات قادمة.

لكن، كلُّ من يقترب من الخلفيات العامة للفكر المالي للبلاد، ويتوغَّل في تطبيقاته، ينتابه التوجُّس من حجم القرارات المقبلة؛ فهناك مُحدَّدات صارمة لمالية الدولة، تجعلها تنفتح تنمويًّا بصورة ضيقة رغم أنها تتمتَّع بعوائد مالية ضخمة، وقطاع الزراعة يُفترض أنَّ يكون ضمن الأجندات التي ينبغي أن تنفتح عليها مالية الدولة.

والمال والزمن عاملان أساسيان لتحقيق أمننا الغذائي؛ فبدونهما لا يُمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي في الآجال الزمنية المستحقة، ومن ثمَّ تهيئة البلاد لمواجهة أسوأ الاحتمالات -لا قدَّر الله- وقضية الغذاء أصبحت الآن من كُبرى القضايا، إنْ لم تكن تحتل قمتها، ليس بسبب الحروب والصراعات والأزمات المناخية والصحية فقط، وإنما لقُرب توديع حُقبة الغذاء الرخيص، وأيُّ دولة تدرك خلفيات ذلك، تُخصِّص موازنة خاصة لدعم أمنها الغذائي؛ لأنها تعلم مخاطر اعتمادها على الاستيراد؛ سواءً: ماليًّا أو سياسيًّا.

وما زالتْ قضية "قرصنة غذاء الخليج" مؤخرًا من قبل إحدى السفن الحربية الغربية الكبرى، وتحويلها إلى أوروبا، تصدم العقل السياسي الخليجي، وهى تبدو كما يقول المثل الدارج: "حاميها حراميها"، وماذا نُريد من عامل قاهر لدعم أمننا الغذائي أكبر من هذه القرصنة؟ لذلك لا بُد من الإنفاق المالي الحكومي على الأمن الغذائي؛ فكلُّ المزارعين في بلادنا من ذوي الدخول الضعيفة والمتوسطة، والفئة الأولى هي الغالبة، وما تُحقِّقه من نجاحات هو نتيجة قوة إرادتها الحديدية، وربما قوة خفية لا نُدركها، لكنها تدفع بها إلى البنوك لاستخراج خيرات الأرض.

وهذا ما نجده في تحويل صحراء الربع الخالي بولاية ثمريت، إلى واحات خضراء من مختلف أنواع المحاصيل والمزروعات، وقد وصلتْ هذه الإرادة الحديدية إلى نجاح إنتاج القمح وزراعة التمور، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للبلاد من عدة محاصيل، وهذا ما نجده كذلك في الجبل الأخضر بولاية نزوى التي تنفرد بالرُّمان والخوخ والمشمش والتين والزيتون والتفاح واللوز والزعفران والعنب...إلخ، ومناخها مُشابه لمناخ البحر الأبيض المتوسط؛ فبلادنا في حالة تعدُّد بيئي ومناخي وجغرافي، ضامن لصناعة أمننا الغذائي.

ونخرُج من طرح النموذجين سالفي الذكر، بأنَّ الانسان العماني مُرتبط بأرضه وجدانيًّا وتاريخيًّا ووجوديًّا، وتبادله الأرض هذا الارتباط بماهيته الشعورية واللاشعورية بصورة تلقائية؛ لذلك نجد الإخلاص المتبادل، والوفاء الثنائي المشترك، وبمجرد أنْ يحمل الإنسان الفأس ويبحث عن الماء حتى ينفجر أمامه. وبمجرد أنْ يحرث الأرض لزراعتها، حتى تجود له بالخيرات الكثيرة، ومن أندرها وأعجبها نوعًا وطمعًا. ومما سَبق ذكره نستدل على أن إنسانًا وأرضًا بهكذا علاقة متجذرة ووجدانية لن نَخشى معه على بلادنا من مجاعة، لكن هذا مُرتبط بالفعل لا بالجمود أو التأخير وعدم الإنفاق.. وهذا ما نخشاه، وهذا يكون دائمًا شُغلي الشاغل، تحذيرًا من هذا السيناريو، لا قدر الله.

ومن هنا.. أعتبر اللقاء الوزاري مع المزارعين خُطوة إيجابية، وفي مسارها الصحيح؛ للاستماع للمشكلات الزراعية في عموم البلاد، وقد وجد المزارعون تجاوبًا في مسألة تخفيف عقود الانتفاع بالأراضي الزراعية، وإلغاء ضريبة القيمة المضافة على المدخلات الزراعية، ودراسة إيجاد مقرات للجمعيات الزراعية، وقد أثيرت قضية الزراعة في النجد من قبل الشيخ فهد بن سعد الشريجي الكثيري نائب رئيس الجمعية الزراعية بظفار، وهو أحد المزارعين الأوائل الذين راهنوا منذ العام 1984م على زراعة النجد، دافعُه النووي قصص وحكايات آبائه وأجداده الذين قطنوا هذه المنطقة، ويعرفون إمكانياتها الزراعية، فتأطَّر في عقله اللاوعي إيمانُ الأجداد بهذه الأرض، وبخيراتها النفعية لعموم البلاد.

لذلك؛ لم تكُن عضويته في الجمعية مهنيَّة خالصة فحسب، وإنما لبلورة إيمانه بالأرض وخيراتها. ومن هنا، فقد أثار هذه القضية الوطنية في اللقاء بصوت مرتفع، مُفندًا وموضحًا الاختلاف الشكلي والجوهري بين الزراعة في منطقة النجد الصحراوية وبين مثيلاتها القريبة من الحواضر والمدن. إنَّني أعرف هذه الشخصية عن قُرب، ووقفتُ على عُمق إيمانه بالنجد الزراعي، وبإمكانية أن تكون هذه المنطقة سلة غذاء البلاد؛ بل والخليج؛ فمرزعته في شصر تحكي قصة نجاحه الشاق والمكلف جدًّا.

وحُججه في اللقاء كلها موضوعية ومتجرِّدة للصالح العام؛ فلا يُمكن مساواة الزراعة في النجد التي تبعُد قرابة الـ200 كيلومتر عن ولاية صلالة بالمناطق الزراعية الأخرى القريبة من الخدمات، فالتحديات فيها تختلف بحجم السماء عن نظيراتها في النجد، والتي يُثقل كاهل الزراعة فيها بُعدُ المسافة، وارتفاع تكاليف النقل، وقسوة البيئة الصحراوية، حرارةً ورياحًا في الشتاء، والبرودة الشديدة في الصيف، والجراد الدائم والعابر للحدود، وكلها تستنزف أموالًا لا يمكن مقارنتها بالزراعة داخل المدن، وتِلكم عوامل تُزيد من ثقل التكلفة المالية للزراعة في النجد.. ويستوجب أن تًؤخذ بعين الاعتبار في إعادة عقود الانتفاع وتحديد أسعار الكهرباء...إلخ.

علمًا بأنَّ هؤلاء المزارعين كانوا ينتظرون التمليك منذ العام 1984، وكانت كل الظروف مهيأة لذلك، قياسا بمنح أراضٍ زراعية بالمجان داخل المدن؛ فعِوَضًا عن ذلك، تأخرت قضيتهم، فإذا بهم يتفاجؤون بخيار الانتفاع وبرسوم مُبالغ فيها، وأسوةً ببقيَّة المناطق الزراعية الأخرى -سواء في ظفار أو بقية المحافظات- المساواة هنا غير عادلة، ولا تنمُّ بأنَّ هناك اعتدادًا بظروف الزراعة في الصحراء، وهى مُخصَّصة لنظام عقود العزب من 10 أفدنة. أما المزارع المُنتِجَة من الثمانينات من القرن الماضي، بمساحات كبيرة، فهى تعجيزية، وستُغلق مزارع الكثير منهم.

لكنَّ بشارة الوزراء الثلاثة في اللقاء بإعادة النظر في هذه الرسوم، يُستبشرُ بها كل المزارعون -خصوصًا النجد- لكن يستوجب تذكير أصحاب القرار قبل صدروه، بعدم عدالة مساواة عقود الانتفاع، وبظروف الزراعة في الصحراء القاسية مناخا والمكلفة ماليًا -كما سبقت الإشارة إليه- وقطاع الزراعة في بلادنا يحتاج لدعم مُتعدِّد الاتجاهات وليس فقط خفض عقود الانتفاع مثل خطوة إلغاء ضريبة القيمة المضافة على المدخلات الزراعية التي استقبلها المزارعون بارتياح كبير؛ فهنا نذكر على سبيل المثال: دعم تسعير الكهرباء، وإحياء بنك التنمية الزراعية بدلًا من إدماجه في بنك التنمية (مقترح سابق)؛ حيث إنَّ هذا الدمج يكون على حساب حصة الزراعة من جهة، كما أنَّ مَيكنة الزراعة في النجد وتوجهات زراعتها على مدار العام، يقضي بإحداث ثورة على الواقع، وهذا لن يتأتَّى إلا بوجود هذا البنك كداعم مالي لهذه التحولات.

ونشدِّد أخيرًا على أهمية الإسراع في تفعيل "مكتب تطوير منطقة النجد الزراعية"؛ فقد ولد هذا المكتب طَمُوحًا وواعدًا، لكنَّه أصابه مرض التأخير والبطء، وهو مرض يصاحب كل التطورات الإيجابية التي يُعلَن عنها. وكُنت في مقال منشور ورقيًّا، قد اقترحتُ استحداث منصب وزير دولة للأمن الغذائي -وفق شروط معينة- بلا حقيبة وزارية، يتبع مجلس الوزراء، وتكون مسؤوليته ملف الأمن الغذائي في ظل تعدُّد وتنوُّع المؤسسات المشرفة عليه، وعدم تفرُّغها، وفي ضوء ما تقتضيه المصلحة الوطنية في حاضر غذائها ومستقبلها، وفي مخاطره السياسية المقبلة.