حرية التجارة مقابل الحمائية

 

مسلم سعيد مسلم مسن

 

تُعرِّف مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" السياسة الاقتصادية (Economic Policy) بأنها مجموعة القرارات التي تتخذها الحكومة بهدف التأثير على السلوك الاقتصادي...الخ.

وفي الواقع تعني السياسة الاقتصادية باختصار المنهج الذي يتبعه اقتصاد ما في التعامل مع الأنشطة والسلع والخدمات، فإما أنه ينهج نظام اقتصاد السوق أو الاقتصاد الموجَّه .ويأتي ضمن الأنواع الرئيسة للسياسات الاقتصادية "السياسة التجارية" وهي باختصار السياسات التي تتبعها الاقتصاديات للتأثير على النشاط التجاري الداخلي والخارجي، فإما أن تميل هذه السياسات إلى "الحمائية" أو ببساطة تعتنق مبادئ "حرية التجارة". معظم اقتصادات المنطقة تمارس سياسات تجارية مفتوحة على العالم الخارجي ودخلت في اتفاقيات منظمة التجارة الحرة والاتفاقيات الإقليمية والثنائية المشجعة للتبادل التجاري وتذليل كافة العراقيل الجمركية والإجراءات والمعاملات. ولا شك أن سلطنة عمان تقع ضمن تصنيف الدول المتبنية للسياسات التجارية المرنة؛ فقد أسهم انضمام السلطنة إلى منظمة التجارة العالمية في تعزيز اندماج السلطنة في الاقتصاد الدولي والذي بموجبه التزمت السلطنة بعدد من الالتزامات تتعلق بتحرير تجارة السلع وتجارة الخدمات. إضافة إلى عضويتها في عدد من التجمعات الإقليمية على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية، فقد التزمت بالاتفاقيات التي انبثقت عن هذه التجمعات والتي تمثلت في قيام الاتحاد الجمركي في عام 2003 ودخول اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التنفيذ في مطلع عام 2005 والتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأميركية والتي بدأت حيز التطبيق في 2009، بجانب اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها دول المجلس مجتمعة مع كل من سنغافورة ومجموعة دول الإفتاء والتي تضم أربع دول أوروبية وهي: (سويسرا والنرويج وإيسلندا وليختنشتاين).

وقد أسفرت نتائج المراجعة الثالثة لسياسة التجارة في سلطنة عمان والتي نشرتها منظمة التجارة العالمية على موقعها الإلكتروني مؤخرا ( بداية ديسمبر 2021) إلى إشادة واضحة من قبل المنظمة بالسياسات التجارية والاستثمارية المنفتحة التي تنهجها سلطنة عمان والتحسينات التي شهدتها في بيئة الاستثمار، والتزامها القوي بالنظام التجاري متعدد الأطراف.

في المقابل، يشهد العالم اليوم ميلاً أكثر من ذي قبل نحو الحمائية بأنوعها في مجال التجارة البينية بين مختلف أطرافه: (الثنائية، متعددة الأطراف والإقليمية)، وذلك في ظل أزمات عالمية متلاحقة لا تفصل بينها إلا مدد زمنية وجيزة، بدأت مؤخرا بالأزمة العالمية للرهن العقاري (2008- 2009)، مرورًا بالأزمة النفطية في النصف الثاني من 2014، وصولًا إلى الأزمة الصحية كوفيد 19 وتأثيراتها التي لازالت جاثمة على الاقتصاد الصيني (الإغلاقات الأخيرة)، وأخيرًا حلول الأزمة الروسية- الأوكرانية وامتداد انعكاساتها على مستويات التضخم والنمو وتراجع سلاسل إمدادات السلع الاستراتيجية؛ مثل: القمح وندرتها وتقييد صادراتها من قبل أكبر المصدرين لصالح أسواقهم المحلية والعقوبات التي طالت جميع مفاصل التجارة والاقتصاد والمال، وهذا ما يتعارض جليًا مع حرية التجارة والعولمة الاقتصادية وموجهات السوق الحر ويعود بنا إلى مربع الحمائية الأول رغم ما تم إنجازه من التزامات واتفاقيات وتكتلات قامت على تحرير مبدأ السلع والخدمات والتكنولوجيا.

هذه المشاهد الماثلة والتطبيقات الحالية لسلوك الاقتصاديات ذات التأثير المحسوس في معادلة التجارة الدولية، تلزم الجميع على المستوى المحلي ومنطقة الخليج والمحيط العربي التفكير بجدية نحو التعامل مع هذا التحدي في ظل أزمة غذاء تلوح في الأفق- حسب توقعات البنك الدولي الأخيرة- وعدم الإتكال كليا على العالم الخارجي في توفير الأساسيات من السلع والخدمات بالأخص عندما نعلم بأن موازين المدفوعات- بالأخص للدول النامية- بها إختلالات تميل لصالح العالم الخارجي في توفير السلع والخدمات الأساسية (عدا النفط والغاز)، ولكن كيف لنا أن نخفف من هذا الاختلال لصالح السوق المحلي مع الموازنة بين تلك السياسات والإلتزام الدولي تجاه مبادئ التجارة الحرة؟ هل هناك معادلة وازنة تحقق لنا ذلك الطموح؟ أم إننا سنتأثر لا محالة بما ستقرره الاقتصادات الصناعية الكبرى من حيث تبادلاتها التجارية التي أصبحت تتسم بالإنتقائية تبعا للمواقف السياسية؟

محليًا، في اعتقادي أن هناك أجوبة لدى المخططين والقائمين على الاقتصاد المحلي حتى وإن لم تكن مكتملة، تلك الأجوبة لا بُدّ وأن تعزز من مفاهيم ثلاثة رئيسية: سياسات الاستثمار الداخلي، وتوطين التكنولوجيا محليا، والتصنيع الداخلي والإكتفاء الذاتي، كما إن تلك الأجوبة -من الناحية العملية- لا تتعارض مع أجندة حرية التجارة والعولمة المنتهكة أصلا من أشرس داعميها، ولا بأس إن تصادم بعض تلك الأجوبة فلسفيا مع مبادئ العولمة الاقتصادية، نلخصها وفق الآتي:

•       سياسات الاستثمار الداخلي:  

بدأت سياسات إحلال الواردات تعزز من قيمة التصنيع المحلي ولكن النموذج التنموي عالميا سرعان ما اعتمد على تنمية الصادرات للوصول إلى معدلات نمو أسرع من خلال نقل التكنولوجيا وجذب الإستثمار الأجنبي المباشر، ولكن هذا النموذج بدأ يتأثر – كما أشرنا – بسبب العودة إلى السياسات الحمائية وتذبذب سلاسل الإمداد . تشجيع سياسات الإستثمار الداخلي الموجه نحو التصنيع المحلي وبالأخص في القطاعات الاستراتيجية مثل : قطاع الأغذية والدواء هو المتغير الذي يمكن التركيز عليه لخلق التوازن المطلوب عندما تميل الكفة لصالح تقييد التجارة . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخطة الخمسية الحالية تضمنت برامج استراتيجية تخدم هذا النوع من السياسات مثل: برنامج القيمة المضافة المحلية لقطاع الصناعة، وبرنامج تعزيز مساهمة أنشطة الاقتصاد الأخضر والدائري في النشاط الاقتصادي، وبرنامج استثمار وطني وأجنبي متزايد في كافة قطاعات التنويع الاقتصادي. كل تلك البرامج والاستراتيجيات الخاصة بالتصنيع والتعدين والاستثمار الغذائي المفترض أن تتضافر جهودها لتعزيز الإستثمار الداخلي لخلق قاعدة إنتاجية تحل محل الواردات وتشكل قوة تصديرية ضاربة، والسؤال هنا: أين وصلت مؤشرات أداء تلك البرامج، ونحن على أعتاب نهاية العام الثاني من الخطة؟ المفترض أنها قطعت شوطا كبيرا.

•       توطين التكنولوجيا:

هذا المفهوم تبنته الخطط والبرامج في صدر توجهاتها ولكن النتائج لا تؤيد حصول نقلة في المجالات المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة . كما أن الخطة الخمسية العاشرة تضمنت برامج إستراتيجية تخدم هذا الغرض مثل: برنامج وطني للذكاء الإصطناعي والتقنيات المتقدمة، البرنامج الوطني للفضاء، برنامج تعزيز الإستثمار في البحث والتطوير والابتكار، برنامج توطين ونقل التقنيات الزراعية الحديثة ...الخ.

•       التصنيع الداخلي وتحقيق الإكتفاء الذاتي:

في ظل الاضطرابات العالمية في التبادل التجاري وسلاسل الإمداد لابد وأن يكون هدف تعزيز التصنيع الداخلي وتحقيق الإكتفاء الذاتي واضحا ويشكل مرتكز للخطط والبرامج.

في الختام.. تظل السياسات التجارية القائمة على الإنفتاح على العالم الخارجي مصدر نمو معتبر في نماذج التنمية الحديثة ولكن الممارسات العالمية الأخيرة عاكست المرتكزات الرئيسية لتلك السياسات، الأمر الذي يتطلب من اقتصادنا المحلي أن يتبنى سياسات داخلية تعزز من مجالات تصنيعه وتقلل من درجة انكشافه مع العالم الخارجي بالأخص في المجالات ذات الطابع الاستراتيجي ( الزراعة والصناعة الدوائية ...الخ) بعد أن أثبتت الأزمات الأخيرة تطبيقات مؤثرة على حرية التجارة والتبادل كانت خارج الحسابات والتوقعات.