عندما أصبحتُ أمًّا لأمي

 

 

منى بنت حمد البلوشية

عندما سكن الألم ومكث جسد أمي شعرتُ بوخزاته في قلبي وروحي، عندها راودني الشعور الذي كان يراودها عندما  كنتُ أمرض وأتألم، هذه المرة  ليس كأي شعور، لأنها عندما كانت تمرض أمامي وأمام ناظريّ  إلا أنها أصبحت أشدّ ألمًا من ذي قبل وهي بعيدة عن عيني.

شاءت الأقدار أن يتم إجراء عملية جراحية لحبيبة قلبي وروحي ورفيقتي قبل عام من الآن، إلا ما برحت آلآم أخرى تراودها قبل أن تتشافى مما كانت عليه وكتب لها القدير بأن يتم إدخالها لغرفة العمليات مرة أخرى منذ أسابيع رغم أن هذه المرة كنا نعتبرها أقل إيلامًا ووقتًا مستغرقًا.

أمي التي اعتدتُ أن أكون بقربها في كل جلساتها ومواعيدها، بتُّ أشعر بأنني أمٌّ لها. شعرتُ بوخزاتٍ بقلبي وكأن زفراتها التي ولدتني بها أصبحت بي. أصبحتُ أشعر بها وبكل ما تمر ومر بها. قبل بضع دقائق من دخولها لتلك الغرفة المغلقة والتي لا أحد بها سواها والأطباء ونفحات الرب العظيم ترافقها.

سألني الطبيب إن كان هناك أي سؤال أو استفسار عن حالتها قبل إدخالها غرفة العمليات رددتُ عليه: "كل شيء علمته منك سوى الوقت المستغرق"، فقال: "لا تخافي ما هو إلا متسع من الوقت"، وحدد لي المدة، حينها اطمأن قلبي، إلا أن نظرات أمي كانت ترافقني وهي على السرير الذي تم أخذها عليه ويدي بيدها وهي تتمتم بالدعوات وعينيها شاخصة، وتنظر لعيني وأنا أبتسم لها لأزيح عنها الخوف والقلق الذي ينتابها، حينها أُدخلت وأُغلق الباب ولا يحقُّ لي ولأي شخص آخر بالدخول، وبيني وبينها أبواب وغرفة الاستعلامات فقط تلك التي أذهب إليها بعد أن طال الانتظار ومرت الساعات بمرورها الثقيل وكل نبض ينبض بأمي هو بي. يا ترى ماذا حدث؟! ولماذا تأخرت هكذا وكل ممرضة تُطمئنُ قلبي، ونبضاته تأبى أن تُصدق الكلمات، وعين كل واحدة منهن تختلف عن نظرات الأخرى. وعيناي لا تكذب ما ترى وأذني تفرق بين النبرات ولا تخدعها إنه حدسي يا أمي الذي لم يخني يومًا.

كل لحظة كانت تمر وكأنها عُمر من عمري وعقارب الساعة أصبحت ثقيلة. أمي يا الله ما بها حينها، وكأنَّ شيئًا ما سقط على قلبي ما بين الاطمئنان، وما بين أن حبيبتي تحتاج لدعاء من الأحبة. لحظات وطلبت من الجميع برسالة واحدة دعوة صادقة لأمي لعلها تُستجاب، وكل الألسن لهجت لها حبًا وودًّا، وكدتُ أنفجر من كثرة ما ألمَّ بي من تعب وثقل الوقت. وأخيرا فُتح الباب لي من أمام العمليات في حدود الساعة الرابعة والربع عصرًا بعد أن أخذت خمس ساعات وشيئا من الأخرى.

أصبحتُ أمًا لأمي عندما أراد كل من حولها من الممرضين والممرضات ألا أصدق ما تقوله لي، وهم يأخذونني جانبا: "لا تصدقي كلامها فهذا كله مفعول البنج"، وأنا أرفع إصبعي كيف لا أصدقها، وأمي لا تكذب وأنا أعلم بحديث الهذيان والتخدير، وحينها بعد أن أمرتُ بوجود الأطباء، قالوا بأن هناك خطأ طبيا حدث، واستطعنا بأن نتفاداه. يااااه تخدير مرتان خلال عملية واحدة، إنها رحمات القدير إذا شاءت أن ترافق عبدا من عباده قالت له: "كن فيكون".

أمي لا تكذب في الوقت الذي صدقتنا فيه ونحن أطفال، فكيف لي أن لا أصدقها، أمي رفيقة دربي وكأنها أختي وصديقتي وكاتمة أسراري. والجميع يشاهدنا وكأننا أخوات، كيف لا أصدقها وكيف لا أكون أمًّا لها، إنني خشيتُ الحياة وأمي تتألم وأنفاسها تعلو وتحيطني من كل جانب وكأنه نور من الرحمن.

أخبرتكم عن أمي فما أخبرتكم هباءً؛ بل أخبرتكم حتى تكونوا مثل قلبي كأنه شجرة ممتدة العروق في حب أمهاتنا، تشعر بهنَّ وبآلآمهنَّ وكيف أن الحب وكيف هو الشعور متجذر في الأعماق وحتى وإن بعدت المسافات نشعر بمن نحب رغم عدم رؤيتهم؛ فنبضات القلب خير دليل، نعم أنا أمٌّ لأمي منذ أن ولدتني وأصبحت أكثر عن ذي قبل؛ لأن حبها ليس كأي حب عندما شعرتُ بزفراتها وعناء ولادتها بي، أصبحتُ أمًّا ولن أستطيع أن أحكي لكم كل ما في باطن قلبي، وحروفي لأمي ولتضحياتها وأعلم أنني لن ولا أستطيع أن أوفيها حقها حتى وإن سهرتُ الليالي من عمري الباقي عليها.

فحمدًا وشكرًا لله على سلامتك وعودتكِ للبيت، والأحبة حولكِ يا من تحت قدميكِ الجِنان.

تعليق عبر الفيس بوك