موسى بن صالح الطائي.. رافع لواء القرآن في أدغال أفريقيا

 

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

 

الشيخ القرآنيّ حافظ اللسان العربي المبين، والعامل بآي الذكر الحكيم، والسائر على أنوار الصراط المستقيم، وأحد جنود الإمام عزان بن قيس المخلصين، والمبلِّغ عن ربّه آيات الذكر الحكيم؛ موسى بن صالح الطائيّ هو ثالث إخوته: (عيسى ومحمد وموسى وأحمد) أبناء (الشيخ القاضي صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن محمد بن صالح بن سعيد بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن ماجد بن سليمان بن سعد بن أبي علي بن محمد بن مصلح البوشري الطائيّ جذورًا وأرومةً وظهْرًا وبطنًا؛ أما نسبته إلى قبيلة (البطاشيَّ) فهو انتماء (حِلْفِيّ عسكريّ وسياسيّ) غير انتسابيّ للأصول والأرومة. وهذا ما أكده الشيخ  القاضي محمد البطاشي- رحمه الله-  حين نفى نِسبة بني بطاش إلى (الطائيين) وأكده الكثير من النسّابة الحاذقين العارفين والمتبحرين في علم الأصول والأنساب.

يُحكى أنّ جدّهم الأكبر-وكان يشتغل بالطبّ والمداواة- قد خرج مع ولادة نجم دولة اليعاربة من قرية (إحدى) بوادي الطائيين، وهو وادٍ نحتته طبيعة الله في بطون سلاسل جبال الحجر الشرقي عبر  الطريق المفضية إلى ولايتي (بدبد) و(صور) من محافظة الشرقية، وهو وادٍ عظيم المساحة، تضطجع الحجارة الجرانيتية على حوافّه وكأنه بحر صحراويٌ عظيم، مرصوفة أرضه بحصباء متفتتة من الصخور الرملية، نبتت في أعطافه أشجار (السُّمر)، بينما تُطل التلال الصخرية المتراصة المتلألئة رؤوسها تحت نير شمس الظهيرة على جانبيه، وكأنها ملائكة تتشوّف الغادين والرائحين على طول الطريق المؤدية إليه، وترصد حركة الحياة النابتة على ضفتيه، وعند نقطة التقاء هذا الوادي العظيم بوادي (ضيقة)؛ حيث يصعب السير فيه، حطّت قافلة الجد الأكبر (الشيخ القاضي صالح بن عامر) في قرية (طيوي)، ثم خرج منها إلى (نزوى)؛ فلمّا سألوه: من أين؟ قال: أنا من طيوي، فقال له: إذن أنت طيوانيّ. فعلقت به وبذريته هذه النسبة، وإنما هو طائيّ نسبا وصهرا).

كان الشيخ موسى بن صالح الطائي من أنصار ومريدي الإمام (عزَّان بن قيس 1868م إلى  1871م)، فبايعه على السمع والطاعة والولاء والبراء، (فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه وأطاعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا)، والتحق بجيشه الذي أخضع ولايات الداخلية والشرقية والباطنة والظاهرة لإمرته وتحت لوائه، فلما اشتعل أوار النزاع، ووقع الخلاف الذي كان على أثره هجوم السيد تركي بن سعيد على مطرح، كان الطائي في زمرة المدافعين فسقط جريحا وانهزم جند معسكره وأفلت دولة إمامته، وهيأت له الأقدار أن يحمله بعض من نجوا من تحت سنابك الخيل، وظلال السيوف المشهرة، إلى قرية (سيبا) في بوشر؛ فلما تماثل للشفاء ركب البحر إلى سواحل أفريقيا، وهناك شق طريقه بين غابات رواندا وكينيا، وسواحل زنجبار، وجمع بين تجارتين من أعظم التجارات؛ فتاجر مع الله في تحفيظ القرآن الكريم وعلوم العربية، وتاجر مع أهلها وزائريها في الأحجار الكريمة والمشغولات التراثية.

عاش الشيخ  موسى بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن محمد بن صالح بن سعيد بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن ماجد بن سليمان بن سعد بن أبي علي بن محمد بن مصلح البوشري الطائيّ يترحّل بين أدغال أفريقيا المترامية باحثا عن الحقيقة؛ يضيء عتمة الأرواح بنور القرآن، وينشر أضواء البيان بين القلوب الغضة التي نبتت في أحضان الفطرة، وتستنير بمصابيح الحكمة؛ كما جاء في الحديث الذي [رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ولفظه: {الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها}؛ زاده القرآن، يرفعه لواء أينما حلّ أو ارتحل، يألفُ ويؤْلَف، ويُقرّب أواصر الجوار، ويعقد أحلاف السلام بين قبائلها وأعيانها؛ شيخا عزيزا مُكرّما بين ملوكها وسادتها؛ فلم يبغض شخصا ولا يردّه على ما جاء به من الحكمة والخير، مهما كانت ديانته أو عقيدته؛ [بل كان يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت وعلى أي لسان ظهرت على حد قول القائل:

لا تحقرن الرأي وهو موافق

حكم الصواب إذا أتى من ناقص

///

فالدر وهو أعز شيء يقتنى

ما حط قيمته هوان الغائص]

فلمّا استقر به المآل تزوج الشيخ (ثلاث نسوة أفريقيات من أصول عربية)، فضلا عن زوجته (العُمانية السليميّة) أرومةً وصهرًا، والتي يرجع نسبها إلى (الشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي) صاحب موسوعات [الشمس الشارقة في علم التوحيد] و[هداية الحكام إلى منهج الأحكام] و[خزانة الجواهر في الفقه] وهو في خمسة أجزاء. و[العقد الثمين في الدعوى واليمين] و[تبصرة المهتدين]. و[بهجة الحنان في وصف الجنان] و[قلائد المرجان] حاو لأسئلته وأجوبته الفقهية نظما.

فلما ترسخت أقدامه في طين أفريقيا السمراء، وتجذرت تلابيب روحه في نفوس أبناء قبائلها، واستروحت نفسه بين أفيائها، واستوى قلبه في أحضان أنسابها وأصهارها، ارتضاها وطنًا ضمه إلى عُمان وطنه الأول وملعب صباه، ومولده ومرعاه؛ فقرر البقاء بين أظهُر أفريقيا وغاباتها الغنَّاء واعظًا ومعلمًا ومرشدًا أهلها إلى أنوار الإسلام، والعمل بآيات الأحكام، يقضي بينهم بالحق، ويؤلف بين قلوبهم، ويجمعهم على كلمة سواء، فتهنأ النفوس، وترتوي بالإيمان بعد أن أظمأتها الخلافات، وأجدبتها المشاحانات؛ فصارت واحات للحب والمصاهرة، وودعت الصراعات المهلكة للحرث والنسل، وظل هذا ديدنه، وهدفه الأسمى، وغايته الكبرى حتى قضى نحبه، وصعدت روحه إلى بارئها راضية مرضية، فسطّرت كلمات من نور في جبين الإنسانية، وخلّفت ذكرى حسنة يرويها أهله وصحبه ممن عايشه وعرفه، وألقى وصيته في حجر أولاده وأحفاده بألا تنفك صلاتهم بأرض عُمان موطن الأهل والأجداد، وأن يؤصلوا حبل المودة بين الأرحام.