لقاح ضد الخوف

عبدالله الفارسي

كنتُ أتبادل أطراف الحديث مع صديق طويل ذي كتف عريض ولديه شنب كثيف مقوس يقف عليه الصقر، وقال لي: أريد ان أتزوج الثانية، فقلت له: افعلها.. وما المانع؟ فأنت قادر ماديًا على أن تفتح أكثر من بيت وقادر جسديًا على احتمال أكثر من زوجة.

فأخذ يهرش ذقنه ويداعب شاربه الكثيف، ثم قال: بصراحة أنا خائف.. خائف من زوجتي وأشماجي!

وفجأة رن هاتفه النقال، فإذا المتصل هي زوجته، فوقف منتصبًا يرتجف كسارية علم في يوم عاصف، ثم ابتعد عني قليلًا؛ فسمعته يهمس لزوجته بكلمات مليئة بالخوف ومطرزة بالرعشة واللعثمة!

---------------------------

استطاع الطب أن يصنع كثيرًا من المعجزات البشرية، وحقق خلال المائةِ عامٍ الماضية إنجازاتٍ مهولة.. إنجازاتٍ شبه مستحيلة.. نعم حققها الطب؛ فقد صنع الأطباء لقاحات ضد أوبئة فتاكة، وقضى على أمراض عضال قاتلة. طب العظام حقق معجزاتٍ في ردم الكسور وترميمها، وتعديل العظام وتقويمها. وطب الجراحة وصل إلى مراحل مبهرة في الجراحة الدقيقة، واستخدام المناظير العجيبة. وطب العيون قطع أشواطا إعجازية لدرجة أصبح قريبًا من تحقيق المعجزة الكبرى وهي شفاء الأعمى.. وإعادة البصر للعيون المظلمة المنطفئة منذ أن خلقها الله. وطب الولادة والنساء.. حقق معجزات باهرة في علم الأجنة، وإنقاذ الأمهات والأجنة على حد سواء من حالات محتمة للوفاة، واستطاع فصل التوائم السيامية الملتصقة، ومنح الحياة للأطفال الخُدَّج.

وكذلك طب جراحات التجميل، حوّل الوجوه القبيحة الدميمة إلى وجوه جميلة، آسرة لا يمكن تخيلها أو تصورها في يوم ما. وحوّل الذكر الخنثى إلى أنثى رقيقة، وحول الأنثى المسترجلة إلى رجل صنديد، وبكبسولة واحدة جعل من الرجل الميت في الفراش فحلًا وثورًا يحرث الفراش حرثًا!

الطب.. صنع خوارق تتحقق على الأرض بشكل متسارع و بصورة لا يمكن استيعابها.. أو حتى تصديقها، لكنْ هناك سؤالٌ طالما أزعجني، وقرع جمجمتي المتحجرة، ولم أحصل على جوابه حتى اللحظة: لماذا لم يخترع الطب حتى اليوم دواءً للخوف وعقارًا للجبن؟!

هل يُعقل أن الطب الذي قضى على أخطر الأوبئة الفتاكة، وهزم كل الأمراض القاتلة.. وما زال يحطم أي فيروس يحاول تهديد البشرية، وآخرها كورونا الذي نحن على وشك القضاء عليه -بإذن الله- وكنسه وإبادته من على وجه البسيطة؟ هل يعقل حتى اليوم لم يكتشف الأطباء كبسولة للقضاء على الجبن من قلب الإنسان.. وطرد الخوف من صدره؟! لماذا الطب عاجز حتى اللحظة عن إنتاج دواء يجعل من الإنسان جسورًا.. شجاعًا.. مقدامًا لا يهتز ولا يرتعد من أي شيء أمامه؟ لماذا لم تكتشف المختبرات الطبية وعلماء الجرثوميات مصلًا للقضاء على جرثومة الخوف من قلب الإنسان؟! شيءٌ غريبٌ حقًا!

الطب اكتشف علاجات للقلق والإكتئاب والإضطرابات العصبية والنفسية، حتى الجنون تمت السيطرة عليه والتخفيف من حدته والتحكم فيه، فلماذا لم تعكف المختبرات الطبية وعلماء الجرثوميات لاكتشاف مصل يقضي على جرثومة الخوف التي تقتحم قلب الإنسان في أبسط مواقف الحياة، ويجعل فرائصه ترتعد في كثير من المواقف الصعبة والخفيفة على حد سواء؟

هل فعلا عجز الطب حتى اليوم عن إنتاج كبسولة يتناولها الإنسان صباحًا، تجعله يخرج من بيته مفعمًا بالشجاعة، مليئًا بالجسارة والإقدام، لا يهاب أحدًا، مهما كان حجمه وطوله، وعرض أكتافه.. وضخامة ذراعيه.. وطول ساقيه؟! لا يهاب مديرًا.. ولا يخاف قاضيًا.. ولا يفزع من عسكريٍ.. ولا يرتعب من زوجته ولا يرتعش من مجرمٍ أو قاتلٍ!

هل فعلا الشجاعة هي جين يولد مع الإنسان، ولا يمكن التحكم به أو السيطرة عليه أو التلاعب به؟ هل فعلًا الشجاعة هبة إلهية يهبها الخالق للندرة النادرة من خلقه؟ هل فعلا الشجعان يملكون قلوبًا تختلف عن قلوب بقية البشر؟

حين قرأنا تأريخ الشعوب العظيمة والحروب القديمة.. كشعوب أمريكا الأصليين: التشيبوا والشوشون والهنود الحمر وقبائل الأسكا وشعوب المغول والإنكا والأزتيك والفايكينج والمابوتشي والزولو والقشتاليين وشعوب الصين ومقاتلي الساموراي والقبائل العربية الصحراوية وبرابرة جبال أطلس، كلهم أذهلتنا شجاعتهم وقوتهم، وذُهلنا من تأريخ أباطرة الرومان، وبطولات المسلمين الأوائل وبسالتهم الخرافية.

أدهشتنا معارك السيف والرمح والسهم والترس.. ذلك التأريخ البشري الصلب الشامخ الذي تضطر أن تنحني احترامًا لأولئك البشر الذين اقتلعوا الخوف من صدورهم.. ومضغوه وبصقوه.. فكانوا أُسودًا تمشي على الأرض.

أيُّ قلوبٍ كان يملك أولئك البشر؟! أيُّ دماءٍ كانت تتدفق في شرايينهم؟! هل انقرضت تلك السلالات الآدمية العجيبة؟ هل اختفت من على الأرض؟ هل ما زال هناك شيء من دمائهم يسيل في عروق بعض البشر؟ هل فعلًا النار القديمة تلك.. لم يبق منها سوى الرمل والرماد؟

ما زلتُ حتى اللحظة لا أعرف لماذا لم يخترع الطب علاجًا لهذا الخوف الذي يسكن صدورنا؟

ترى رجالًا طوال عراضا يخافون من رؤسائهم ويرتعبون من سادتهم، ورؤساؤهم لا يجرؤون على طلب أبسط حقوقهم، ورجال ترتعد فرائصهم من نسائهم وزوجاتهم، ورجال ينتفضون من أقزام وصعاليك، ورجال يهربون من ثعبان أو عقرب أو حتى من سحلية صغيرة، ورجال يموتون بالسكتة القلبية خوفا وهلعا من خسارة مادية.. أو من مشكلة اجتماعية.. أو من قرارات مباغتة!

كيف يمكن لرجل أن يهاب زوجته.. ويخافها ويرتجف أمامها، ثم تراه خارج بيته كأنه أسد زئيره يفزع الصغار والكبار!

لا أفهم كيف يحني الرجل رأسه لمسؤوله كأنه خادم ذليل مطيع منفذا أوامره دون نقاش أو احتجاج أو اعتراض!

إننا بحاجة ماسة إلى لقاح لعلاج لهذا الوباء العجيب الغريب، متى سيتدخل الطب ليخلص هؤلاء الضعفاء المساكين من هذا الجبن الذي يسكن صدورهم.. ويزلزل أرواحهم؟!

هل الطب متواطىء مع السياسة؟.. فهو يمتنع عن التحرك في إكتشاف هذه الكبسولة.. لأنها ستتسبب في قطع رؤوس وإسقاط عروش وتكسير مقاعد وحرق مكاتب؟ أم إن الشجاعة والجبن.. جينات ثابتة تخلق وتولد مع الإنسان؟ وبالتالي هي جزء من رزقه الذي نزل به من السماء.. ليعيش بصحبته في الأرض طوال حياته.

هنا فقط ربما لا يملك الطب سوى أن يقف عاجزًا خائرًا حائرًا عن التدخل أو التحكم في هذا النوع من الهبات الربانية والخصال النادرة. لكن هل يعقل أن تكون الشجاعة في زمننا هذا شيئا نادر الوجود ومستحيل الحصول؟

واللهِ لا أعلمُ!