النجد.. ملحمة عطاء لا تنتهي

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

قبل 4 سنوات من الآن تيسّر لي زيارة لمنطقة مزارع نجد لعدة أيام، تلمست خلالها معاناة حقيقية لأصحاب هذه المزارع. كتبت حينها مقالا أشرت فيه لبعض من هذه المعاناة وبعض من مطالباتهم الملحة للاستمرار في إنجاح مشروعاتهم الزراعية الناشئة، وسط أجواء وتضاريس الصحراء الصعبة من واقع ملامسة الحال، وما آل إليه المآل في أوضاعهم وزراعة نجد الواعدة عمومًا.

بعدها بأكثر من عامين، ومن وسط جائحة كورونا وما رافقها من بروز أوضاع اقتصادية فجائية، خصوصا فيما تعلق بارتفاع أسعار معظم السلع المستوردة وما
أكثرها في عماننا الحبيبة سواء كانت السلع غذائية أو استهلاكية أخرى؛ بل إن الأمر وصل حينها لتعذر الاستيراد أحيانا، ونظرا لكون قضية الأمن الغذائي برزت للسطح حينها بقوة، وأصبح العمل على إيجاد الحلول ضرورة ملحة مهما كانت إمكانياتنا المالية للشراء والاستيراد من الخارج (وكانت مزارع نجد احداها)، وقد تداعت كل الدول لمقابلة ذلك والصرف عليه بسخاء، فقد كتبت حينها مقالًا عن ضرورة التسريع دون تردد ومهما كلفنا ذلك لجعل منطقة مزارع نجد سلة غذائية لعمان بعد أن أثبتت التجارب الزراعية التى قامت بها الجهات الحكومية مشكورة هناك ومزارعو نجد في أراضيهم الزراعية، وعلى أأرض الواقع منذ ما يزيد على 30 عامًا دون أي دعم يذكر يحصلون عليه، مثل: دعمهم بالمبيدات الحشرية لمحاربة غزو الجراد.

ولأن هاجس تداعيات كورونا ليست عنا ببعيد فقد ذهبتُ قبل أيام برفقة زميل عزيز استضافني لمزرعته، وكان زميلي أحد الابطال الحقيقيين الذين استصلحوا واستزرعوا أحد هذه المزارع التي تجاوزت اليوم أكثر من 1300 مزرعة مختلفة المساحات حسب جهود مؤسسيها في الاستزراع. ورغم أنه زميلي في دراسة الحقوق في الثمانينات من القرن الماضي، ومارس تخصصه الذي درسه وشغل وظيفة عامة في مجال التخصص، إلّا أن حصافته ووطنيته وإنسانيته دعته لتأسيس مزرعة في النجد منذ مايزيد عن الثلاثين عاما حتى أصبحت قطعة الأرض الصحراوية هذه واحة خضراء، ومؤخرا بعد أن نالته موجة التقاعدات المبكرة الأخيرة، اصبح متفرغا تماما لهذه المزرعة إلا أنه -رغم كل ذلك وكل تلك السنين- لازال مهددا بالتوقف عن الاستمرار في مزرعته في أي لحظة!

الطريق الترابي الذي يصل بين الشارع العام ومزرعته يزيد عن 30 كم، وهناك من المزارع
أبعد بكثير، وهذا الطريق، وإن أصبح ممهدا منذ عقد من الزمن وواضح المعالم إلا أنه دفع وأقرانه ضريبة ذلك سنينا طوالا، وعانى الأمرّين في طريقه لمزرعته ولجلب مستلزمات وأدوات الزراعة من صلالة؛ حيث لا طريق محددة المعالم مما يضطره أحيانا للبحث عن مزرعته وسط هذا الصحراء المترامية في طرق ترابية وعرة، وبلا خطوط كهرباء تصل إليها مما يضطره للتوليد الكهربائي الذي يكلفه برميلين ديزل للمحور الواحد فقط في اليوم.

 

السؤال: هل زال العناء بعد كل هذه المدة وبعد أن مهد الطريق إلى مزرعته ووصلت الكهرباء؟

الجواب: لا.. فما زالت تكلفة الكهرباء لثلاثة محاور مزروعة بالمزرعة تزيد على 4000 ريال في الشهر، فهل يعقل معاملة استهلاك مزرعة في وسط الصحراء وتحت درجة حرارة تزيد عن 45 درجة في الصيف باستهلاك مزرعة وسط صلالة أو الجبل الأخضر مثلا؟! أضف إلى ذلك ما صاحب هؤلاء المزارعين من قلق مستمر منذ ما يزيد على 3 عقود في سبيل تسوية أوضاع مزارعهم؛ سواء بالتملك وهو ما أصبح حقا مشروعا لهم قانونًا بعد كل هذه المدة من الاستزراع والاستصلاح أو الموافقة على إعطائهم سند الانتفاع إلا بمقابل بشرط تعجيزي وهو أن يلتزم بدفع مبلغ إيجار انتفاع بمعدل 50 ريالا للفدان الواحد سنويا في أراض تتراوح مساحتها بين 100 و300 فدان!

النجد ليست ظاهرة جديدة أو غريبة في حياة ظفار وعمان؛ فقد احتضنت منذ القدم ثلث التركيبة السكانية في ظفار المكونة أساسًا من مدن وريف ونجد، وكان لهذا النجد دور بارز في التكامل الاقتصادي بين أطياف المجتمع واليوم وفي عصر نهضتنا الحديثة والمتجددة. وبعد أن انبرى شباب من أبناء هذا النجد العريق مع إخوانهم من بقية أطياف المجتمع بجهود ذاتية صرفة، وعلى مدى 3 عقود متواصلة باستصلاح وزراعة هذه الأراضي المترامية الأطراف -رغم المشقة- وفاء منهم لنجدهم ولإحياء دوره الإيجابي في التركيبة السكانية والمجتمعية مستفيدين من وسائل العصر الحديث، وباذلين في سبيل ذلك الغالي والنفيس وعصارة شبابهمن وحاولوا تحويل هذه الصحراء إلى واحات غناء تغذي بزرعها البشر وتشبع الضرع الذي يمدنا باللحوم والألبان ومشتقاتها، دون أن نقدم لهم طوال كل هذه السنين العجاف التي حولوها بإرادتهم التي لا تكلّ ولا تملّ إلى سنوات سمان ولو حتى بتوفير مركز إرشاد زراعي واحد بالقرب منهم ، هل هكذا تكون المكافأة ورد الجميل لهم؟!

ألا يكفى مزارعو النجد فخرًا أن نسمع ونحن اليوم في عمق معمعة تخوف العالم من نقص في حبوب القمح يهدد العالم بمجاعه نتيجة الحرب الدائرة بين المعسكرين. إن عددا بسيطا من مزارع نجد أنتجت هذا العام 1500 طن من القمح من مجمل استهلاك السلطنة السنوي المقدر بـ20000 طن، إضافة لما أسهمت به هذا المزارع منذ سنين في الأمن الغذائي لعمان، بل تجاوزت ذلك بالتصدير للدول المجاورة من أجود وألذ أنواع البطيخ والشمام الذي لايقارن جودة بما كنا نستورده، وغير ذلك من أجود وأرخص أنواع الخضروات: كالطماطم والخيار والكوسة والبطاطا بنوعيه: الأصفر والأحمر إضافة إلى أنواع من الفواكه على رأسها: التين والرطب والتمر الذي نترقبه كل عام في مثل هذا الموسم. أصبحت النجد اليوم بجهود هؤلاء تنتج معظم أنواع الحبوب والفواكه والخضار.

استبشرنا مؤخرًا بإعلان قيام هيئة تطوير مزارع نجد، وننتهز المناسبة لنثمن الدعم الحكومي في هذا الشأن والمتمثل -إضافة إلى ذلك- في شراء شركة مطاحن عمان لإنتاج قمح مزارع نجد بأسعار مجزية، كما نتطلع للمزيد في إطار النهوض بهذه المنطقة الزراعية الواعدة، ويمكن تلخيص بعض أهم مطالبهم اليوم والذي نأمل بعد هذه الانفراجات أن تكتمل الحلقات بانفراجها والتي تتمثل في: تخفيض التعرفة الكهربائية، وتخفيض القيمة الإيجارية لعقود الانتفاع بهذه الأراضي الزراعية من 50 ريالا إلى 5 ريالات، إذا كان التوجه العام للدولة عدم التمليك، رغم مشروعيته بجدارة في حقهم، والسماح لهم باستجلاب العمالة الزراعية بدل الطرق الملتوية وغير المستقرة الذي يضطرون للجؤ لها لاستمرار عملهم، وإلغاء ضريبة القيمة المضافة على المستلزمات الزراعية، والعمل على إيصال الكهرباء للمزارع التي لازالت تعمل بالديزل؛ فقد تجاوز سعر برميل الديزل اليوم سقف 50 ريالًا.

نأمل ذلك سريعًا وعاجلًا؛ فقد أصبحنا -وللأسف الشديد- نشهد توقف بعض هذه المزارع عن العمل تماما بعد ذبول وتيبس زرعها، بعد أن كان أخضر لا يسرُّ فقط؛ بل يبهج الناظرين وسط هذه الصحراء لسنين خلت، وبعد أن تكبد أصحابها مبالغ طائلة في استصلاحها تصل لمئات آلاف الريالات؛ وذلك لعدم قدرة أصحابها على الاستمرار في دفع فاتورة الكهرباء الباهضة جدا عليهم، فكيف بهم بعد إضافة دفع 50 ريالًا للفدان؟

إلى متى ما زلنا ننتظر؟ هل نرجو حصول كارثة عالمية ثالثة علينا؟ ألم يحن الأوان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المزارع الواعدة، ونمهد لقيام المزيد منها؟!