التاريخ.. صراع الأساطير والروايات!

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

"تؤدي الأساطير دورا مهما في مجتمعات أفريقيا عبر تاريخها، فهي إلى جانب كونها معتقدا وطقوسا يمارسها الأفريقيون، إذ لم تكن خرافات كما ظنها البعض فإنها- إلى جانب ذلك- وعقب فقدانها دورها الشعائري تتحول إلى شاهد تاريخي، يعتمده المؤرخون في الكتابة عن هذه المجتمعات، خصوصا في ظل غياب المصادر التاريخية المدونة". أ.د خالد أبو الليل.

 

*****

هل كتابة التاريخ تدخل في مرحلة إسترخاء أو خروج عن الخدمة حسب مفهومنا المعاصر، هل بالإمكان توقف الأقلام عن كتابة التاريخ لو لبرهة، هناك -وأنا أؤيد ذلك - من يعتقد أن الإمتناع عن كتابة التاريخ أفضل بكثير من كتابة ينتصر بها الكذب على الصدق، والتزوير على الحقيقة، أي إنك ألا تكتب خير أن تكتب كلمات تعبق بالكذب والبهتان، الشاعر الشعبي مساعد الرشيدي- رحمه الله- له شطر من قصيدة يقول به: الغياب .. ولا حضور ما يشرف.

هناك من يتعذر بضرورة كتابة التاريخ وإن تضمنت الكتابة بهارات زائدة (طبعا لا يوجد شئ اسمه بهارات في التاريخ، فلسنا في سوق العطارين!)  حتى لايضيع التاريخ، وبالطبع انا ضد هذا التوجه، أذ ان مؤرخي المستقبل المتمكنين من العلم سيكفون المزور كتابة التاريخ وليسوا بحاجة لإجتهاداته الكاذبة!

المفكر الألماني يوهان غوته يقول: أعمق موضوع في تاريخ الانسان هو صراع الشك واليقين، وفعلا اتفق مع الألماني النبيه في ذلك، إذ إن التاريخ برمته هو صراع، ومثلما السياسة هي كيفية إدارة الصراع، فإن صراع التاريخ هو صراع الشك واليقين، وحتى اوضح أكثر هو صراع الصادقين والكاذبين!

لا يمكن لأي مزور أن يكون مؤرخا، انسى ذلك، قد تساعده ظروفا معينة، لكنه سيرجع أدراجه مع أول خطوة من خطوات الحقيقة، فالشمس لايطمسها منخل ولاغربال ولا حتى بطانية مصنوعة من البوليستر!

أحداث كثيرة في حاجة لإعادة كتابتها من باحثين ومؤرخين تلتقي فيهم الحصافة مع الأمانة التاريخية، على الأقل الأحداث بوقتنا المعاصر كثير منها يخالف الحقيقة ويعتبر تزويرا رسميا مختوم وموقع عليه بالاعتماد، لكنه اعتماد لاقيمة له، اعتماد وليد لحظة القوة التي عندما تنهار، سيأتي من يكتب اللحظة بشكلها الحقيقي وتستدعى وقت ذلك مطبوعات التزوير إلى ماكينات تلف الأوراق!

في كتابة التاريخ إن لم تكن صادقا اتركها لغيرك، ولاتأخذ على كاهلك تدوين الأكاذيب تحت أي مسمى وصفة، فالكذب خيبة ولايربح صاحبة ولايوجد كذب أبيض وكذب بنفسجي، بل كذب وصدق وأختر أي الطريق السالك منهما!

وهناك من يربط التاريخ بالأسطورة، وأثناء التحضير لهذا المقال قرأت بحثا محكما للأستاذ الدكتور خالد أبو الليل (1) بعنوان  "رحلة الأسطورة في أفريقيا"، وفي هذا البحث العلمي الشيق قرات معلومات واستنتاجات عن علاقة الأسطورة بالتاريخ وكيف ربطت بالتاريخ في بعض المجتمعات و هو في الحقيقة يقصد المجتمعات الأفريقية محل البحث، ومن ضمن ما استشهد به ابو الليل عبارة للدكتور أحمد كمال زكي: أن الأسطورة تربط بالقص الخيالي الذي ليست له صلة بالتاريخ، او المنطق العقلي؛ فالأسطورة لاتخرج عن أن تكون قصة خيالية قوامها الخوارق والأعاجيب التي لم تقع في التاريخ ولايقبلها العقل، حتى أننا عندما نريد ان ننفي وجود شئ نقول إنه اسطوري. (2)

نفهم كما سبق أن لكلا طريقته في فهم التاريخ (فهم وليس نقل) فهناك من يستفهم من الاساطير في حالة إنعدام المصادر، وكذلك يعتبر البعض الأشعار مصدرا، و أقاصيص الأساطير ممكن تلهم الباحث، وهناك من يعنمد التواتر والظن، ويعتبر الامر ظنيا أكثر منه واقعا، بل حتى أن الكثير من الروايات الشفهية قد ينقصها الانضباط في النقل، وتعتمد على وجهة نظر أو عاطفة الراوي، لذا علينا ألا نذهب بعيدا في كل رواية ونعتبرها صحيحة، بل علينا تفهم إشكالية علم الغيب مع الأسطورة مع النقل المبتور (اقصد المبتور بلا قصد وليس المكذوب).

هناك أمر مهم جدًا، خاصة في زمننا المعاصر المزدحم بالآيديولوجيات، تخيل إنك تقرأ تاريخًا كتبه أيديولوجيٌ متعصبٌ فكيف سيكتب؟ هل سيكتب بقناعته الفكرية أم سيمتطي صهوة النزاهة وامانة النقل؟!

في كتابة  الفرويدية  يقول ميخائيل باختين: كل واحد من ملفوظاتنا هو في الحقيقة بناء أيديولوجي مصغر. (3)

أحيانًا أتصوّر أن للتاريخ فهم خاص لكل باحث، وبأن كل حدث له ما له، وعليه ما عليه، ويقبل كل التصورات، وليس تصورًا واحدًا، وهنا احدثك عن تاريخيات ليست من المسلمات، بل أقصد الأحداث التي لم تكن مصادرها كافية، ولا مراجعها وافية، لذا فهي تعتمد في النقل على استدراك ووعي الباحث، و ذمته المهنية، ووازعه العلمي، لذلك بعض الأحداث قد لاتخرج عن الأساطير أو ممكن تصلح لتكون رواية أدبية تدخل في سباق البوكر!

*********

  1. مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد 186/ سنة 2022م . رحلة الأسطورة في أفريقيا . مملكة وجدو بين الأسطورة والتاريخ نموذجا. الكاتب: أ.د خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبي  بكلية الآداب جامعة القاهرة، مصر.
  2. د. أحمد كمال زكي. كتاب: الأساطير. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، المكتبة الثقافية العدد 170، 1967. ص 35 .
  3. مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد 185/ سنة 2022م. اللغة بوصفها ايديولوجيا مقاربة لمفهوم التنوع الكلامي عند باختين. ص: 111،  الكاتب: د. هاشم ميرغني أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية في كلية أحمد بن محمد، الشحانية- قطر.