الزلزال

 

محمد بن سالم البطاشي

أصبح يوم الرابع والعشرين من فبراير 2022 علامة فارقة في تاريخ البشرية، سقطت فيه نظريات وتبدلت فيه قناعات وتغيرت خرائط وتحركت جيوش وتقهقرت أخرى، وتحولت مواقف من الحياد إلى الانحياز، ومن النقيض إلى النقيض.

فبعد دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية انكشفت سوءات أوروبا الأمنية، وانهار فجأة شعور الأمان الذي نسجته بجهد جهيد وتدثرت به بعد الحرب العالمية الثانية، لتصحو فجأة وهي على شفا حرب عالمية ثالثة لن تبقي ولن تذر، ووجدت أوروبا؛ بل العالم أجمع نفسه أمام حقائق جديدة لم يتهيأ لها من قبل، حيث سيل اللاجئين الأوكرانيين يتدفق دون انقطاع، مع ما يترتب على ذلك من استنزاف مالي منهك لاقتصاديات بدأت بالكاد تتعافى من جائحة كوفيد-19، وإذا بارتفاع حاد في أسعار الطاقة فرض نفسه بدون سابق إنذار في ذروة موسم الاستهلاك.

نذر وبوادر الحرب العالمية أطلت برأسها من جديد بعد نحو 77 عامًا من كارثة الحرب العالمية الثانية، وذلك لأوَّل مرة منذ أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962، وهو ما بدا واضحًا من تصريحات كبار المسؤولين في كلا المُعسكرين. ولم تكن أوروبا والغرب عمومًا وحدهما أمام هذا المأزق؛ بل شمل ذلك أقطارًا وأصقاعًا تبعد عن موقع الحدث مسافات شاسعة لكنها لم تنج من الزلزال وارتداداته، فمن لم يتأثر بسيل اللاجئين أو ارتفاع أسعار الطاقة أصبح يتوجس خيفة من شح الغذاء وشبح المجاعة، سيما وأن البلدين المعنيين مباشرة بهذه الحرب يمثلان جزءا مهما من الإنتاج العالمي للغذاء، وأصبحت البلدان المستوردة في مواجهة مباشرة مع أزمة غذاء عالمية شديدة قد تتسبب في اضطرابات سياسية واجتماعية في بلدان عديدة لا تمتلك أنظمتها المناعة اللازمة لمواجهة مثل هذه المواقف.

إنَّ المخاطر المحدقة بالعالم جراء استمرار هذا الصراع لا تكاد تقع تحت حصر وهي في تزايد مستمر مع الوقت، منها: حدوث فجوة في سلاسل الإمداد المختلفة، وأهمها الغذاء والخامات المعدنية مثل الحديد والكبريت والزئبق والألمنيوم والنيكل، وتحتل روسيا موقعا رياديا في إنتاج وتصدير النفط والغاز، وذلك بعدما فرض الغرب حزما متعددة من العقوبات الشديدة على روسيا، منها منع بنوكها من الوصول إلى نظام التعاملات المالية العالمي (سويفت) بهدف عزل روسيا ماليا ومنع أية تعاملات مالية معها. سقوط العولمة وانقسام العالم إلى كتلتين اقتصاديتين متناكفتين قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، حيث صدرت تحذيرات جدية من مؤسسات عالمية عديدة بهذا الشأن منها صندوق النقد الدولي وذلك في تقريره الصادر في إبريل 2022؛ حيث حذر فيه من خطر إقدام روسيا والصين وحلفائهما على إنشاء نظام مالي ينافس الغرب ردًا على العقوبات الغربية على روسيا، وهو النظام المعروف بـ"يونيون باي"، الذي أصبح يشكل نظامًا موازيًا للنظام المالي الغربي، بما يشكل تحديا جديا للقواعد التي حكمت العلاقات السياسية والاقتصادية على مدى 75 عاما، وهو ما سيكون له تداعيات وعواقب اقتصادية ضخمة، كما تنبأ التقرير أيضا بأن معدل النمو العالمي سيتباطأ بشكل حاد من معدل 6.1% عام 2021م. إلى 3.6% هذا العام، بما في ذلك اقتصاديات كبرى الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا، وأن روسيا سينكمش اقتصادها بنسبة 8.5% وكذلك الحال بالنسبة لأوكرانيا، وستنتشر آثار هذا التباطؤ على نطاق واسع من خلال الأسواق والتجارة والروابط المالية، على اعتبار أن روسيا تعد موردا رئيسا للنفط والغاز والمعادن، وهي تشترك مع أوكرانيا في توريد المواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية، الأمر الذي تسبب في ارتفاع الأسعار العالمية بصورة ملموسة بعد انقطاع سلال الإمداد.

على المستوى الإستراتيجي والسياسي كسرت الحرب الروسية الأوكرانية الكثير من المسلمات والأعراف التي سادت بين الشرق والغرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومست بشكل مباشر الأمن الأوروبي ووجهت ضربة في الصميم لشعور الأمان الذي كانت تشعر وتطمئن إليه بل وتتفاخر به الشعوب والحكومات الأوروبية، لدرجة أن السويد وفنلندا أعلنتا صراحة رغبتهما في الانضمام إلى حلف الناتو، وهو الأمر الذي كان من الصعب مناقشته علنا قبل هذه الحرب.

أما على الصعيد العالمي فهناك قلق وترقب شديدين لما سوف تسفر عنه هذه المنازلة، ويمكن للمراقب ملاحظة بوادر غليان متصاعد في عدة مناطق منها جنوب شرق آسيا؛ حيث الصين وحلفاء أمريكا في المنطقة أيديهما على الزناد، وكل منهما يتوجس شرا من نوايا الطرف الآخر. وفي الشرق الأوسط فإن التوتر هو سيد الموقف بسبب تصرفات إسرائيل وإصرارها على إشعال المنطقة واستغلال ذلك سياسيًا، وبسبب قرب المنطقة النسبي من منطقة الصراع الروسي الأوكراني.

ويبدو أن بوادر التصعيد العالمي رأسيًا وأفقيًا هي المرجحة مع استمرار تعقد الموقف العسكري ميدانيًا، مع ما يتبعه ذلك من استقطاب عالمي حاد قد يفضي إلى كارثة كونية، أصبحت تقترب شيئًا فشيئًا، ومع أن المساعي الدبلوماسية لم تنقطع لكنها تبدو عاجزة عن زحزحة الطرفين عن مواقفهما.

على الصعيد العسكري، يبدو أن هذه الحرب قد أصبحت واحدة من العقد المستعصية مع انزلاقها يومًا بعد يوم إلى حرب بالوكالة بين روسيا وحلف الناتو، مع احتمالية توسعها ودخول أطراف أخرى، لا سيما بعد تصريحات كبار المسؤولين الغربيين بضرورة هزيمة روسيا عسكريًا في هذه الحرب، وهو الأمر الذي من شأنه تأجيج الصراع لأقصى درجة؛ ذلك أن روسيا المدججة بمختلف أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية لن ترضى بهزيمتها عسكريًا مهما كلف الأمر.

ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية في روسيا وأوروبا وأمريكا وعدم قدرة اقتصاديات هذه الدول على تحمل تكاليف هذه الحرب فترة طويلة ومع تسارع وتيرة التسليح الغربي لأوكرانيا بشكل لافت بهدف جعل أوكرانيا مستنقعا يستنزف روسيا، فإن احتمالية توسع الحرب وتحولها إلى صراع عالمي بدأت تقترب رويدًا رويدًا.