جرس إنذار عالمي

حاتم الطائي

◄ علينا أن نعيش على ما نزرع ونصنع وننُتج بأنفسنا

◄ اضطرابات سلاسل التوريد تعكس اختلالات القطاع وتمثل جرس إنذار عالمي

◄ التوترات العالمية مستمرة في إطار "لعبة المصالح".. والحرب لن تنتهي قريبًا

لم تكن الحرب الدائرة رُحاها في أوكرانيا جرس الإنذار الأول الذي يُنبّه العالم أجمع للخطر الداهم الذي يقترب رويدًا رويدًا من الجميع، وهو خطر تعطل سلاسل الإمداد والتوريد وما قد يُسببه من تداعيات مُؤلمة وقاسية ليس أخطرها نشوب مجاعة في مناطق مُتفرقة من العالم، ولا أقلّها التضخم الجامح "Hyper Inflation"، ومن ثم الركود الحتمي، ثم تتوالى أحجار الدومينو الاقتصادية في السقوط واحدة تلو الأخرى!

فالاضطرابات التي تشهدها سلاسل التوريد حول العالم، تعكس الاختلالات الواضحة في هذا القطاع، نتيجة لاستحواذ دول بعينها على سلع وبضائع وخدمات، بينما هناك دول أخرى لا تجد ولا تملك أيًا من هذه السلع أو الخدمات. ولقد كان جرس الإنذار الأول الذي لفت انتباه الجميع إلى خطر اضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد، تفشي فيروس كورونا، وما تبعه من إغلاق للحدود الوطنية، وتوقف حركة الطيران بصورة شبه كليًا تقريبًا، وتعطل سلاسل الإمداد في الكثير من الدول، فضلاً عن عدم قدرة دول أخرى عدة على الحصول على ما تحتاج إليه من إمدادات، وخاصة الإمدادات الطبية في تلك الفترة العصيبة. والأمر لم يتوقف عند ذلك الحد؛ بل إنَّ بعض الدول مارست عمليات قرصنة كادت أن تنسف الثقة بالكامل في خطوط التجارة الدولية، خاصة البحرية منها، فشاهدنا دولًا "تُسيطر"- إذا جاز هذا التعبير المُحايد- على حاويات للمُعدات الطبية وأدوات الرعاية الصحية، بدلًا من وصولها إلى وجهتها المقررة سلفًا.

الأمر يتكرر مرة أخرى الآن، ولكن بصورة مُغايرة، فنشوب الحرب في أوكرانيا، تسبب في تعطيل آلاف الشحنات من الحبوب، وخاصة القمح والذرة؛ حيث تُقدَّر الكميات المُحتجزة داخل الصوامع، بملايين الأطنان، والتي ربما تتعرض للتلف والعطب إذا ظلت هكذا في ظروف غير مهيئة لتخزينها لفترات طويلة. وبينما تشتعل الحرب يومًا وراء يوم، تشتعل أسعار السلع والخدمات حول العالم، حتى وصلت نيران الغلاء إلى كل دول العالم. فحتى الآن لم تنجُ أي دولة من براثن التضخم، مهما اختلفت النسب، لكن المؤكد أن هذا التضخم الناتج عن شُح المعروض وزيادة الطلب، سيؤدي إلى كساد اقتصادي ربما يكون أسوأ من الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في 2008. والمخاوف تتعاظم من عدم قدرة الدول على مواجهة هذا التضخم الصاعد بقوة الصاروخ، فهناك دول- خاصة في أفريقيا وآسيا- وصلت معدلات التضخم فيها إلى 500%، ولنا مثال بالسودان، كما إن التضخم في الولايات المتحدة- حيث عملة الاحتياطي الدولي- قفز الشهر الماضي لأعلى مستوى منذ 40 عامًا، عندما وصل إلى 8.5%، وهذا مُعدلٌ خطير للغاية، وقد يدخل الاقتصاد الأمريكي في نفق مظلم ما لم يتمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) من كبح جماح التضخم، خاصة وأنه ما زال أمامه جولتان من رفع سعر الفائدة حتى نهاية العام.

توقعاتنا أن التوترات العالمية ستستمر، ويبدو أنَّ الحرب والصراعات المُسلحة لن تتوقف خلال السنوات المقبلة، فالحرب في أوكرانيا أسوأ من الحرب الباردة التي نشبت بين قطبي العالم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي- آنذاك- واستمرت حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ويمكن القول إنَّ الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل، لكنها ليست مثل الحربين العالميتين التقليديتين الأولى والثانية؛ بل هي نسخة متطورة، فالتسليح المتواصل لأوكرانيا لكي تواصل الحرب بالوكالة ضد روسيا، يُشير بوضوح إلى أنَّ الغرب (أوروبا وأمريكا) لا يريد لهذا الصراع أن ينتهي، ولا أن يبدأوا في محادثات سلامٍ تُنهي حالة التوتر العالمي غير المسبوق. قد يرى الغرب أنَّ روسيا هي الطرف التي بدأ العدوان، لكن الواقع يؤكد أنها أيضًا الطرف الذي يُحقق تقدمًا كبيرًا على الأرض، وأن معظم خيوط اللعبة لدى الكرملين، إلّا أنَّ موسكو تريد قبل أي قرار تتخذه لوقف الحرب، أن يتم رفع جميع العقوبات من عليها، خاصة وأنَّ هذه العقوبات هي السبب الأول في التضخم العالمي، وفي تعطل سلاسل الإمداد والتوريد.

العالم يتَّجه إلى المزيد من الصراعات الكبيرة والعنيفة، وسيناريوهات المستقبل ليست وردية على الإطلاق، خاصة وأن التطور التكنولوجي في قطاع التسليح لا يتوقف، وما يجري الآن من حرب حقيقية معروفٌ أهدافها وأطرافها، لن تضع أوزارها إلا بعد أن تقع الكارثة التي يخشى الجميع منها. والأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحرب، تؤثر بشدة في الأمن الغذائي والصحي للدول حاليًا، ولا بديل يلوح في الأفق، سوى أن نعتمد على أنفسنا وعلى مواردنا وما تزخر به من خيرات غير مُستغلة، وطاقات لا يُراد لها أن تُوظَّف كما ينبغي، لذا آن الأوان لنقولها بأعلى صوت: علينا أن نعيش على ما نزرع ونصنع وننُتج بأنفسنا، وأن نقلص اعتماداتنا على الآخر إلى أقل مستوى ممكن، وأن نحقق الاكتفاء الذاتي من مُختلف السلع والخدمات في أسرع وقت ممكن؛ فالتقنيات التكنولوجية أتاحت وسهلت بلوغ هذه الأهداف، فالتطور التكنولوجي في الزراعة يُساعدنا على زراعة مختلف المحاصيل، والاستفادة المُثلى من الموارد المائية القليلة، واستصلاح الأراضي. كما علينا أن نتوسع ونشجع على إقامة مصانع للأدوية والمستلزمات الطبية، واستقطاب كبرى الشركات العالمية لتصنيع اللقاحات والأدوية، وتغطية الاحتياجات المحلية والتصدير للخارج. وعلينا أن نستعد للتغير المناخي الذي يحدث ويتطور عامًا تلو الآخر، فعُمان تقع في حزام الأعاصير، وما حدث خلال الإعصار شاهين خير دليل على ما قد نواجهه من تحديات.

ويبقى القول.. إنَّ عُمان، بمواردها وإنسانها الذي يطمح إلى بلوغ العُلا، قادرة على تحدي الصعاب إذا ما توافرت الإرادة والإدارة، ولا أجدُ توقيتًا مناسبًا لذلك خير من الآن، ونحن ما زلنا في العام الثاني من تطبيق رؤيتنا المستقبلية "عُمان 2040"، وكُل المُمكنات متاحة لنا، فلا مناص من اقتناص الفرصة والبناء على قواعد متينة راسخة تضمن لنا المُستقبل الآمن بأقل قدر مُمكن من التهديدات والتحديات.