التاريخ.. وتأريخ القانون

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

"إن القوانين توضع للسيئين.. لا للطيبين من البشر". جون ستيوارت ميل.

 

أي مهتم أو دارس أو باحث في التاريخ لابُد أن تكون مرت عليه "شريعة حمورابي"، وهي أول مجموعة قوانين منظمة وضعها الإنسان عبر التاريخ، وقد وضعت إبان حكم القائد البابلي حمورابي في الدولة البابلية بالتاريخ القديم، ومن يقرأ قوانين حمورابي البالغ عددها 282 قانونًا، سيجد بها تغطية شاملة لتقنين مناحي الحياة آنذاك، وتعد هذه القوانين كما ذكر الكثير من المؤرخين أول قوانين مكتوبة ومنظمة في التاريخ.

وهناك الكتب السماوية التي أرسلت مع الأنبياء والرسل، وهناك الشرائع السماوية قبل حمورابي (وهي نظم أقرب للعرفية وهي غير مكتوبة) وهي نظم وليس قوانين، وهناك مادة في القانون تسمى تاريخ قانون النظم بتناول المراحل التاريخية لنشأة القوانين، للدكتور عبدالسلام الترمانين (1).

فيها تعليمات وبيانات حول التوحيد والعبادات والأخلاق وبها مرور على سير الأمم، والبشرية منذ هابيل وقابيل تعاملت مع التعليمات بحسب القناعة والإيمان بفائدتها وكذلك المصلحة من ورائها، لاشك أن المصلحة عامل مهم في توجيه الأخلاق العامة، والقناعة مشتقة من المصلحة؛ إذ لن تقتنع بشيء ما لم تكن لديك به مصلحة سواء أُمنية (خوفًا من جزاءات إلهية) أم قانونية.

ومما هو معروف، هناك قوانين أقرب للعرفية وهي غير مكتوبة كالأعراف بين المكونات الاجتماعية كمعالجة قضايا الثأر، والميراث، وبعض من قضايا الأحوال الشخصية والتي تعاملت معها الشريعة الإسلامية باهتمام ودقة، وكذلك هناك قوانين أخلاقية يعتبرها الكثير بأنها فطرة إنسانية قبل أن تكون قانونا كبر الوالدين والأمانة والصدق والنزاهة، وغير ذلك مما شابه، علينا أيضا التنبه بأنَّ العصبية الفئوية هي قانون غير مكتوب.

خلال التحضير لهذا المقال قرأت للأستاذ الدكتور سيد العربي (2) بتقديم إحدى المحاضرات؛ حيث يصف تأريخ القانون إنه أولًا: النظم القانونية والاجتماعية في المجتمعات البدائية: نظام الملكية، نظام التجريم والعقاب، ونظام الزواج، ونشأة فكرة القانون.

ثانيًا: المدونات القانونية: مدونة حمورابي، ومدونتا صولون ودراكون، ومدونة الألواح الاثني عشر.

ثالثًا: النظم القانونية والاجتماعية عند اليهود: في أصل اليهود ومصادرهم القانونية، والنظام السياسي وطبيعة نظام الحكم عند بني إسرائيل، والنظام القضائي في الشريعة اليهودية، ونظام العقوبات في الشريعة اليهودية.

رابعًا: النظم القانونية عند العرب قبل الإسلام: البنية السياسية لنظام الحكم، ونظام التقاضي، والجرائم والعقوبات (3).

في عصرنا المعاصر نجد أن أغلب القوانين الوضعية آتية من فرنسا، تلك البلاد التي اشتهرت بأنها أم القانون الحديث، ومنها استمدت كثير من الدول قوانينها ودساتيرها الخاصة، وقد قرأت مايلي عن نشأة القانون الفرنسي: بناءً على أوامر صادرة من نابليون بونابرت، صدر قانون نابليون أو القانون المدني في عام 1804. ونظرًا لما تتميز به مواده من سلاسة، بات نموذجًا- ابتداءً من القرن التاسع عشر- يُحتذى به في كتابة عدد من قوانين بلدان العالم المختلفة، على وجه الخصوص دول أوروبا وأمريكا اللاتينية.

أما في مصر، فقد كان الأستاذ عبد الرزاق السنهوري- رجل القانون البارز- هو الصانع الأساسي وواضع صياغة القانون المدني المصري في الفترة من عام 1946 وحتى عام 1949. ومن فرط تأثره بالقانون الفرنسي، نجده قد أنجز عملًا باهرًا من خلال ما قام به من مزج برّاق بين روح التشريع الإسلامي ووضعية القانون الفرنسي. ويأتي القانون 131 لعام 1948 ليؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن فاروق الأول، ملك مصر، ومجلسي الشيوخ والنواب قد اعتمدوا وأصدروا القانون المدني الذي صاغه الأستاذ السنهوري وهو ما أدى إلى إلغاء التشريعات القديمة. وما حظى به السنهوري من صيت عالمي كفقيه قانوني قد أهله لصياغة القوانين والتقنينات المدنية في كل من العراق وسوريا والأردن وليبيا والكويت والإمارات العربية المتحدة (4).

كل شيء في الكون الفسيح له قانون خاص مكتوبًا كان أم عرفيًا او حتى غير مكتوب، والتاريخ ما زال ضيفًا رئيسيًا على مائدة القانون بأنواعه الدارجة، فالقانون منه تنبثق الدساتير والمعاهدات والإتفاقات وأوراق البيع والشراء، وحتى حياتنا الشخصية يحكمها القانون، لذلك من الأهمية بمكان الإهتمام بتأريخ القانون، وبالفعل أخذت الكثير من الجامعات العريقة على كاهلها الاهتمام بهذا الأمر؛ بل إن درس تاريخ القانون قد يكون الدرس الأول لكلية القانون؛ إذ طيف تدرس قانونًا لا تعرف تاريخه؟

القانون ليس سيفًا قاطعًا فقط؛ بل إن المهمة الأساسية للقاضي التعامل الأمين النزيه مع أطراف القضية المنظورة. وأذكر أنني سمعت أحد القضاة يؤكد أن مهمة القاضي الأهم هي محاولة إظهار البراءة للمتهم وليس محاولة الإدانة، وإنّ خطأ الحكم ببراءة أهون بكثير من خطأ الإدانة لمتهم بريء.

لذا علينا أن نتعامل مع هيئات القضاء كطرف يسعى للحق وليس جهة تسجيل إدانات وعقوبات، فالقضاء مؤسسة يفترض أن تكون الواجهة الموثوقة الأولى في كل بلد، فهي الملاذ بعد الله لكل مظلوم والرادع لكل ظالم.

قال تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف: 199).

****

  1. أ.د عبدالسلام الترمانيني: أستاذ قانون من مدينة حلب بالجمهورية السورية، عمل أستاذًا للقانون في كلية الحقوق بجامعة الكويت.
  2. أ. د السيد العربي، استاذ القانون في جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية.
  3. محاضرات: المقرر علي طلاب الفرقة الأولي (مادة تاريخ القانون) انتظام وانتساب وتخلفات مجموعة (ب) ومجموعة (ج)، منشور على موقع كلية الحقوق / جامعة القاهرة في 3 مايو 2021م.
  4. موقع السفارة الفرنسية بجمهورية مصر العربية، مقال: تاريخ القوانين المدنية الفرنسية والمصرية ومراحل تطورها، غير معروف الكاتب، نشر في 4 ديسمبر 2013.