الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
علامة استفهام شقَّت رأسي: هل هناك جيَّاع لقلة الموارد؛ أم صناعة الجوع حِرفة؟
سُرعان ما يثُور العقل بعد قراءة كتاب "صناعة الجوع وخرافة الندرة" تأليف فرانسيز مورلابيه وجوزيف كولينز، ويبدأ بإعادة النَّظر في أمور كثيرة كان سابقًا يأخذها من باب الأمور الواقعية أو المُسلَّمات.
يناقش الكتاب الخطأ في الفكرة المُنتشرة بعدم قدرة الأرض على الوفاء بحاجة البشر، بل يؤكد على أنَّ الإنتاج قادرٌ على توفير الغذاء للجميع، وأنَّ الخلل يكمُن في سيطرة قلة غير عادلة على الموارد؛ سواء كانت تلك الموارد مالية أو أراضيَ زراعية شاسعة يمتلكها أفراد قلة؛ الأمر الذي يعطل الإنتاج الزراعي. بينما ينتشر الجوع في المناطق التي تتحكَّم بها قلة في المساحات المزروعة، كما أنَّ معظم الثروة التي يتم الحصول عليها من الزراعة الاستثمارية لا تعُود إلى الاستثمار الزراعي، بل تُسحَب لأغراض ترفيهية أو استهلاكية.
والكتاب يُشير كذلك إلى أبرز مَعامِد صناعة الجوع؛ وهو: الربا والاحتكار، وكما أشارت إحدى الإحصائيات فإنه في العام 1973م قامت 36 دولة من بين أفقر40 دولة متضررة من تضخم أسعار الغذاء بتوريد سلع غذائية للولايات المتحدة؛ أي أنَّ تعظيم الربح مُقدَّم على تحقيق اكتفاء للمجتمع من الطعام أو تقليل أسعار الغذاء، وهو في حقيقة الأمر سرقة للفقراء، وتماشيا مع قوانين العرض والطلب والربح.
إنَّ السرقة وفق قواعد اللعبة الرأسمالية الربحية تُخفِّض سعر المنتج وقت الحصاد؛ خُذه بأقل سعر وارفع السعر بعد ذلك، ثم بِعه بأغلى سعر، الخاسر الوحيد في هذا اللعبة هو الفقير. وهنا أسوق نموذجًا لك: بنجلاديش؛ حيث ينهار سعر الأرز وقت الحصاد بفعل كبار رجال السوق، فيضطر الفلاحون لبيع كميات كبيرة ليسدِّدوا ديونهم الربوية، ولا يبقى لهم الكثير ليأكلوه.
ومن إستراتيجيات صناعة النُّدرة للحفاظ على الأسعار: التخفيض الحاد في أسعار منتجات حيوية، تمامًا كما فعلت أمريكا في بداية سبعينيات القرن الماضي، بتخفيض إنتاج القمح للحفاظ على أسعاره، وهي إحدى أدوات صناعة الجوع. ومن الكوارث الصانعة للجوع كذلك استخدام المواد الكيماوية في الزراعة، والتي تُستخدم في انتزاع الأرض باستخدام الديون المتراكمة على الفلاحين.
التشوُّه العالمي الحالي وعدم قُدرة الأمم على إطعام نفسها، هو أحد نتائج التراث الاستعماري؛ فاذا كان أحد أهداف الاستعمار تطوير المجتمعات البدائية -من وجهة نظر المستعمر- للوصول إلى مستوى مثالي من استغلال الأرض والموار، ولكنَّ المستعمر الجديد المطوَّر أعادَ بنية النظام ليُحسِّن من الإنتاج طبقا لقواعده الرأسمالية؛ مما سبَّب تضخمًا في الثروة لصالحه، وليحترق العالم من بعده.
ولا تزال التأثيرات السلبية لكل ذلك التشوه جليَّة في تغيُّر الخرائط الزراعية بالدول المحتلة، والتي أدت لوجود خلل دائم مع بقاء أذيال الاستعمار ومفاصل السلطة والثروة في كثير من المجتمعات. والأمر الذي أبقَى التشوُّه دافعا لمزيد من الجوع؛ أن هياكل الإنتاج والتجارة مبنيَّة لخدمة التصدير وضد مصلحة الشعوب، ولترى الصُّورة بشكلها الأكبر عليك النظر في الأزمة الروسية-الأوكرانية وما أفرزته من أزمات: غاز، وقمح، ومعاملات مالية.
ومن العَبَث الاستعاضة عن الانسان واليد العاملة البشرية بالآلات الحديثة في بلدان تعدادها البشري مرتفع جدًّا؛ لأنه بذلك يرفع سوق البطالة، وبالطبع ستعود الميكنة الزراعية بالعوائد الضخمة على صاحب رأس المال، ولكن: ماذا عن خلق مشكلة أخطر وهي التسريح والبطالة؟
إذن الجوع صناعة، والندرة خُرافة، وليستا ظاهرة عشوائية في عصرنا الحالي، بل وحتى ليستا نتاجًا لحالة طبيعية أو قدرًا، بل هي نتاج قرار جماعي من صناعيه، وما كل ذلك إلا لعبة ورثها الاستعماريون الجدد وتمَّ إعادة تشكليها وفق قواعد وأنظمة جديدة؛ فكل هذه المنظومات والأنظمة تدعَم تعظيم ثروة صانعيها، الذين يسرقون قُوْتَ الفلاح بيد؛ وتُرسَل له المعونة السنوية باليد الأخرى.. لا عدلَ ولا قيمَ في المعادلة!!