ما رأيك في الحياة؟!

عبدالله الفارسي

البارحة كنتُ جالسًا في مكاني المعتاد، وحيدًا أتأمل السماء وأستنشق الهواء، وضوء القمر يداعب البحر، والنسيم يدغدغ الذاكرة المتخمة بالوجع والضحكات والسخربات الكبيرة، وفي غمرة سفري مع القمر والبحر وصحراء الذاكرة، إذا بسيارة تقف بجانبي فجأة، وإذا هو أحد الزملاء القدامى، زملاء العمل الذين قضيت معهم ردحًا من الزمن.

استأذنني بالجلوس معي، فرحبت به، جلسنا ندردش معًا عن العمل والناس والحياة، ثم سألني سؤالًا غريبًا:  هل وصلت الخمسين؟ غالبًا أكثر الرجال والنساء لا يحبون الاعتراف بالعمر، أو ذكره، أو الاعتراف بالرقم الصحيح له، أو حتى مواجهة حقيقته؛ وكأنها فضيحةـ يدارونها عن الأبصار، أو قبيحة يخفونها عن عيون الناس.

فقلت له: لقد تجاوزت الخمسين منذ سنتين.. فقال: ما شاء الله. وباغتني بسؤال آخر ولكنه سؤال فلسفي عميق وثقيل، فقال لي: ما رأيك في الحياة وقد قضيت فيها نصف قرن من الزمان؟

حقيقة لم أعرف ماذا اقول له في تلك اللحظة، فليس كل اللحظات مناسبة لتثرثر فيها أو تتفلسف. والرجل صديق، وأكن له معزة خاصة، وأعرفه جيدًا، أعرف طبيعته، ونظرته للحياة، وأعرف مشاكله معها، وعلاقته بها؛ لذلك لم أتمكن من الإجابة على سؤاله بوضوح في ذات اللحظة، وربما لم أحب أن أحقن صدره بتشاؤمي المعروف، لكني ألقيتُ على سمعه بعض العبارات غير المتناسقة، والجمل المبعثرة غير المترابطة.

وحين غادرني، قررت الإجابة على سؤاله العميق الذي ظل يقرع قلبي وعقلي منذ سمعته: ما رأيك في الحياة؟

الإجابة على سؤال كهذا صعبة جدًا؛ لأن الحكم على الحياة ليس أمرًا هينًا ولا بسيطًا، ونظرات الناس للحياة تختلف من شخص لآخر، وهناك مقاييس نفسية وعقلية لإصدار الأحكام على الحياة، وهي مرتبطة غالبا بظروفنا المعيشية وعلاقاتنا الاجتماعية.. كيف عشنا؟ وماذا عانينا؟

وغالبًا، الألم هو الذي يبرز في أحكامنا على الحياة.

الألم.. والأوجاع والأحزان.. والصدمات.. هي التي تجتمع في الذاكرة بكثافة.. فتنقش أحكامنا نحو الحياة؛ فالحزن أقوى أثرًا من الفرح؛ فكل لحظات الفرح الكثيرة والطويلة التي عشناها تُمحى في لحظة حزن عابرة وقصيرة، بينما لا تتمكن لحظات الفرح من طمس جرعات الحزن ونوبات الألم. لهذا الألم ينتصر دائمًا؛ لأن قلوبنا بطبيعتها تحتفظ بالألم والحزن، ولا تحرص على الاحتفاظ بالبهجة والسرور والفرح!

سبق أن كتبت رأيي في الحياة من خلال مقالات كثيرة، وعلاقتي بالحياة عمومًا ليست جيدة، وأيضًا ليست سيئة، فلم أعاني كثيرًا من المرارات، وأيضًا لم تعبرني لحظات فرح أو ابتهاجات كثيرة، لكني التقط كل ما حولي من الأوجاع، واحتفظ بملامح البهجة، متأثرًا بروائح الأفراح وعبقها القصير.

الحياة من وجهي نظري رحلة سيئة، غير مريحة، وغالبًا مخيفة، وغير آمنة، وهي مشروع خاسر بامتياز! فمهما كانت أرباحك في الحياة.. فخسائرك ومفقوداتك تكون أضعافًا مضاعفة. لذلك دائمًا أكون حذرًا في التعامل مع مغرياتها، متوجسًا من ضحكاتها ودغدغاتها.

هناك من يحب الحياة لدرجة العشق والهيام، لربما أنه لم يجد منها سوى الكرم والسخاء والغنج والغناء. وهناك أيضًا من قست عليهم الحياة، لكنهم مع ذلك يعشقونها، وهنا يغلب الجانب البيولوجي البحت على هذه العلاقة؛ فالروح متمسكة بالجسد وملتصقة به درجة التماهي، والجسد يمثل الأرض والتراب والحياة. ونادرون هم أولئك الروحانيون الذين يتعاملون مع الحياة من خلال جانبها الروحي، ويعاملونها بمشاعرهم وأحاسيسهم التي تسيل من أرواحهم، فكلما كانت علاقتك بالحياة روحانية، كلما تألمت، وزادت معانتك في التأقلم معها؛ لان الروح وحدها من يفهم ويستوعب حقيقة الحياة.

الماديون هم من يتمكنون من الاستمتاع بالحياة.. والانتصار عليها.. ولو مؤقتًا.. ولكن تكون خسائرهم فادحة جدًا في نهاية الطريق.

باختصار.. أقول لصديقي.. إن الحياة بالنسبة لي رحلة شاقة، ومرحلة صعبة لا تخلو من الأفراح، ولا تنقطع عنها الآلآم، وكوننا مسلمين فهنا يكون إحساسنا بالحياة إحساسًا جمعيًا؛ فالمؤمنون كالجسد الواحد، "إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

والعالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان يعيش في أسوأ أوضاعه، وفي أتعس حالاته، وهذا طبعًا يؤثر بشكل كبير على علاقتنا مع الحياة، وتعاملنا معها، ونظرتنا لها. وأي تجاهل أو تنكُّر لحال المسلمين من حولك، هو نوع من الخروج من العقيدة، وابتعاد عن الشريعة، والتي تقوم على التعاطف النفسي والروحي بين المسلمين.

من المعيب والمشين الاستمتاع بمتع الحياة، وممارسة الابتهاج، وإخوانك يموتون ويحترقون ويتمزقون، لا يمكن أن تتجاهل ألمهم ومعاناتهم وعذابهم؛ لذلك المؤمن يعيش مع معاناة إخوته، حاملًا أوجاعهم، متنفسًا عذابهم.

لذا.. أنا ساخط على الحياة.. غير راضٍ عنها أبدًا، ربما لأنني عشت في حقبة من أسوأ حقب المسلمين وأرداها، ولا أتوقع فرجًا قريبًا، ونصرًا سريعًا مبينًا يزيح هذا الهم عن صدري، ويقشع هذه الغمامة من روحي.

لذلك أعيش الحياة بفتور كبير، وأقوم بواجباتي فيها بتكاسل عظيم، وأفتقد الحماس للاستمتاع بحسنها وجمالها الخادع، ينقصني موت الضمير للنهل من مياه نهرها الآسن الغادر. لا أملك تلك الرغبة العنيفة في التعلق بلذائذها ومغرياتها، فبعد مرور نصف قرن من الزمن أصبحت الأمور معي سيانًا، الغِنَى كالفقر، والبهجة كالحزن، والسعادة كالألم.

لا ألهثُ وراء مال أو منصب أو جاهٍ، ولا أخشى فقرًا أو جوعًا أو معاناة، ولا أطمح إلى شيء أكثر من العافية، ولا أسعى إلى مبتغى أعلى من حسن الخاتمة.