الدبلوماسية البيئية.. ترف أم ضرورة؟!

علي بن سالم كفيتان

يقول الدكتور لورانس إسكندر في مقدمة كتابه "دبلوماسية البيئة": "أنا لست من خبراء البيئة إذا كان ذلك يعني الدعوة الى حماية المصادر الطبيعية بأي ثمن. كما إنني لست من دعاة التنمية معصوبي العينين. فمن الواضح أنه يجب علينا أن نوفر المأكل والملبس والمأوى وإتاحة فرص العمل لبلايين البشر على أن نضمن تحقيق تلك الأهداف بما يتيح للأجيال المقبلة نفس مستوى معيشتنا على الأقل".. لقد حدد الدكتور لورانس مبادئ التفاوض البيئي بهذا النص وهو في الأصل فقيه في القانون الدولي ومتخصص في التشريعات البيئية.

لقد أصبح الملف البيئي يشغل حيزًا مهمًا في الاروقة السياسية والاقتصادية العالمية؛ فعلماء البيئة المختصون في علم الاحياء وعلوم الأرض المختلفة المتعلقة بأشكال الحياة داخل كوكبنا وحوله، اكتشفوا أنهم بحاجة لجرعات قانونية وإدراك كافي بعلم التفاوض أو ما بات يعرف بـ"دبلوماسية البيئة"؛ لإيصال أهدافهم وبلوغ غاياتهم لحماية الكوكب؛ فالعلوم المجرّدة تُفضي في الغالب إلى حقائق مجردة، وتعمل على تحييد بعض المؤشرات الحيوية، مثل: زيادة السكان، والحاجة للغذاء والتصنيع لمجابهة الجوع والفقر، وتحقيق الرفاه للإنسان. لذلك ظل صوت المدافعين عن حماية الكوكب خافتًا، ولا يلاقي التجاوب المطلوب من الشعوب والساسة، وبات التعاطف مع القضايا البيئية مدعومًا بالحراك السياسي الطامح لبلوغ كرسي الحكم أو مقعد البرلمان ومأرب أخرى.

ذات يوم بارد في مونتريال الكندية جلس أكثر من 180 وفدًا في قاعة الإيكاو للتفاوض حول ما يعرف بـ"برتوكول قرطاجة للسلامة الأحيائية"، فانقسمت الوفود إلى مجموعات ضغط معروفة وأشهرها "مجموعة 77 والصين" التي تتبنى رؤية الدول النامية مدعومة بالموقف الصيني، ومجموعة الاتحاد الأوربي، وأخرى تحت اسم "ميامي جروب" تضم الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا والكيان الصهيوني وآخرون. وكان النقاش محتدمًا حول إقرار مواد البرتوكول  من حيث التعاطي مع المواد المحوَّرة جينيًا وإدخالها ضمن التشريع العالمي الجديد؛ حيث عرض المنادون بالتحوير الجيني للمنتجات حلولًا جذرية للجوع في العالم، بينما اشتد صوت المعارضين بحجة الإضرار بالأنواع الأصيلة على الكوكب، وتغير أنماط التنوع الحيوي، إضافة إلى الأضرار الصحية المحتملة لاستهلاك المنتجات المحورة جينيًا؛ حيث بيّنت بعض التجارب المخبرية على الحيوانات أن معدل عمر الإنسان المستهلك لتلك المنتجات قد ينخفض إلى 45 سنة.

وفي ظل الجلبة المحتدمة بين الطرفين وقف وسط القاعة رجل عجوز من القارة السمراء ليطلب الكلمة، فسَمَح له رئيس الجلسة، فقال: "قد أعيش 90 عامًا وأنا جائع ويداهمني الفقر من كل جانب، وفي الجانب الآخر قد أعيش نصف هذه المدة لا أفكر في الجوع مطلقًا فأيهما أفضل؟". وأنهى حديثه بقوله: "عليكم أن تختاروا". ما زلتُ أذكر تمامًا ذلك الموقف الذي مضى عليه أكثر من 20 عامًا والتصفيق الحاد من الوفود لهذا العجوز المتمنطق بلبسه التقليدي الزاهي ممثلًا للمجتمعات المُهمّشة، فما كان من رئيس الجلسة بدهائه القانوني إلا أن أحال التساؤل لمجموعات الدفاع عن القيم البيئية الفطرية. وعلمت في حينها أن المفاوض البيئي يجب أن يتسلح جيدًا قبل القدوم لحضور مثل هذه الاتفاقيات، وخاصةً إذا كانت بلادك تمتلك حق التصويت على إقرار مواد تلك الاتفاقيات، فرغم الانتماء الفطري للدول النامية ستجد من يصوت للطرف الآخر، وهنا تتدخل السياسة على حساب البيئة.

لا تقتصر الدبلوماسية البيئية على الجانب الدولي؛ بل قد تكون ورقة ناجحة على المستوى الإقليمي والوطني بيد متخذي القرار، الذين يهمهم تقديم الأفضل، فمحاورة وزير المالية للحصول على أموال لدعم الجهد البيئي تفاوضٌ يتطلب الحوار بلغة المنافع المرجوة، فهؤلاء تحكمهم لغة المال ولا تعني لهم شيئًا الجملُ العلمية والمصطلحات البيئية، بقدر المردود المالي من أي مبلغ سيتم صرفه. في الجانب الآخر، يعد الجلوس مع المجتمعات المحلية التقليدية المتمسكة بعاداتها وتقاليدها المتوارثة لتحقيق تقدمٍ ما في إحدى القضايا البيئية، بمثابة تفاوض، فهذه المجتمعات يغلب عليها الشعور العاطفي وتعظيم القيم المتوارثة على حساب كل النواحي الأخرى، وأمام كل هذه الأهواء والأمزجة في أروقة الاتفاقيات الدولية التي تحكمها السياسة ومع شخصيات رسمية تتحكم في القرار السياسي والمالي وتنظر للمبدأ النفعي المباشر من جهة، ومجتمعات محلية متمسكة بقيمها وتقاليدها إلى النخاع من جهة ثانية، يجد المفاوض البيئي نفسه محاصرًا في زوايا عدة وهمه الأول بلوغ الأهداف والمرامي التي يطمح إلى تحقيقها وفق مؤشرات واضحة قابلة للمراجعة والقياس.

سيجلس الى جانبك ممثل من السفارة في جميع المؤتمرات واجتماعات الاتفاقيات الأممية، ومثلما تحتاج أنت للغة التفاوض والدبلوماسية؛ فهو يحتاج لمعرفة أساسيات علم البيئة.. حفظ الله بلادي.