الفائض المالي وتحفيز الاقتصاد

حاتم الطائي

◄ الأداء المالي يعكس نجاعة الإجراءات في مواجهة التحديات الاقتصادية

◄ تحفيز الاقتصاد يجب أن يشمل توفير السيولة للمشاريع الإنتاجية

◄ نأمل الاستفادة من الفائض المالي في بناء مشروعات غير مسبوقة مثل "المترو"

عكست الأرقامُ الأخيرةُ التي نشرتها وزارة المالية والمُتعلقةُ بالأداء المالي للدولة خلال الربع الأول من العام الجاري، نجاعة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمُعالجة التحديات المالية التي فرضتها ظروف المرحلة السابقة، وعلى رأسها جائحة فيروس كورونا والتراجع الذي شهدته أسعار النفط قبل سنوات وحتى الربع الثالث من 2020.

فقد حققت الميزانية العامة للدولة فائضًا ماليًا وصل إلى 357 مليون ريال عماني، وهو أكبر فائض مالي فصلي يتحقق منذ تسجيل السلطنة لعجوزات متكررة خلال أرباع فصلية سابقة، ما يشير بوضوح إلى الاستفادة التي تحققت بفضل عدد من العوامل، أولها: الإدارة الرشيدة لعملية الإنفاق المالي، وثانيها ارتفاع أسعار النفط، أما ثالث العوامل فيتمثل في نجاح إجراءات التوازن المالي، والتي تطبقها الحكومة حتى عام 2024.

ومنذ أن تسبب وباء كورونا وتداعيات أزمة تراجع أسعار النفط على الأداء المالي والاقتصادي لعُمان ومختلف الدول، خاصة الدول المصدرة للنفط، سعت الحكومة إلى اتخاذ حزمة من التدابير والإجراءات التي خففت من وطأة الأزمة، لكن ذلك لم يمنع حدوث اختلالات مؤثرة في مسيرة النمو الاقتصادي، وتضرر الناتج المحلي الإجمالي وسجل تراجعات واضحة، عكست عمق الأزمة التي تعرض لها اقتصادنا الوطني حاله حال جميع الاقتصادات حول العالم. غير أننا في سلطنة عُمان، تأثرنا بدرجات مختلفة، نتيجة اعتمادنا الكبير على عائدات النفط الخام، على الرغم من الجهود الحثيثة لتعزيز التنويع الاقتصادي. وربما من الصواب القول إنَّ أزمة كورونا ينطبق عليها المثل القائل "رُب ضارة نافعة"، فقد ساعدتنا هذه الأزمة في تعجيل الإجراءات ومضاعفة الجهود الرامية إلى زيادة موارد الدولة من الأنشطة غير النفطية، سواء من خلال استحداث ضرائب جديدة ساهمت في رفد خزانة الدولة بملايين الريالات، أو عبر تعزيز الاستثمارات بقطاعات واعدة مثل السياحة واللوجستيات والموانئ وغيرها، الأمر الذي ساهم في إحداث تحول في مسار الإيرادات العامة، والتي شهدت حتى نهاية الربع الأول من 2022، ارتفاعًا بلغت نسبته 66.3 في المئة، مسجلة 3 مليارات و25 مليون ريال عُماني، مُقارنة مع الإيرادات المحصلة في نفس الفترة خلال عام 2021، عندما وصلت هذه الإيرادات إلى مليارٍ و819 مليون ريال عُماني فقط. ولنا أن نكتشف الفارق في هذه الأرقام إذا ما خُضنا في تفاصيلها، فقد بلغت إيرادات ضريبة القيمة المضافة في هذه الشهور الثلاثة الأولى من 2022 إلى 69 مليون ريال عُماني، بينما حققت الميزانية 24 مليون ريال عماني من إيرادات الضريبة الانتقائية.

لكن هل الإجراءات التي تم اتخاذها كفيلة بتحقيق ما نصبو إليه من تطلعات فيما يتعلق بزيادة النمو الاقتصادي؟ الإجابة تتمثل في أنَّ هذه الإجراءات لا شك أنها حققت العديد من النتائج، إلا أنه ونظرًا للأوضاع الاقتصادية من حولنا في العالم، لا سيما الحرب في أوكرانيا، فإننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد، من أجل تحفيز الاقتصاد، والتحفيز المقصود هنا يعني إعلان إجراءات جديدة تُساعد مؤسسات القطاع الخاص على قيادة النمو، وليس فقط إسناد مشاريع لعدد من الشركات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين! كما إن هذا التحفيز يجب أن يأخذ في عين الاعتبار أهمية تخفيض سعر الفائدة للمشاريع الإنتاجية، فرغم أننا نعلم أنَّ زيادة معدلات التضخم لا يجب أن يتزامن معها أي خفض في معدلات الفائدة، لكننا نأمل أن يطرح البنك المركزي العُماني مبادرة خاصة، تُساعد في توفير التمويلات اللازمة للقطاع الخاص الإنتاجي؛ حيث إنَّ هذا التمويل سيُساعد في عودة خطوط الإنتاج ومن ثم توظيف المزيد من الباحثين عن عمل، وهنا تبدأ الدورة الاقتصادية الشهيرة المعتمدة على الحركة التجارية والاستهلاك... إلخ.

لقد تجاوزنا المرحلة الأصعب من أزمة كورونا، فقد بلغ معدل الإصابات والوفيات مستويات دنيا، لا تُذكر مُقارنة بما تشهده دول أخرى، وهنا علينا استثمار هذه الحالة الإيجابية، والعمل على توظيفها لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، وفي المقدمة مواصلة تقديم التسهيلات الاستثمارية وتحفيز أصحاب رؤوس الأموال محليًا من أجل استثمار الأموال في مشروعات متنوعة، خاصة تلك المتعلقة بقطاعات حيوية، مثل الأمن الغذائي، والاستزراع السمكي، والزراعات المحمية. ومن المقترح أن تتوسع الحكومة في الاستفادة من الفائض المالي في بناء مشاريع خدمية، مثل خطوط المترو، لا سيما بين مسقط والباطنة والداخلية، وهي المناطق الأكثر كثافة وتشهد حركة يومية، يمكن أن تقود لنمو حقيقي، من خلال بناء مخططات سكنية وتجارية جديدة على امتداد هذه الخطوط، وفتح الباب أمام القطاع الخاص للاستثمار في مشاريع البنية الأساسية. ولعل من الأفكار التي يُمكن تنفيذها كذلك تنشيط الحركة العمرانية في مدينة العرفان ومنطقة مرتفعات المطار في مسقط، والتي ما زالت تفتقر للعديد من المشاريع القادرة على جذب السكان وأصحاب الأعمال إلى هذه المناطق، ولن يتحقق ذلك دون استكمال مشاريع الطرق فيها بالكامل والسماح بأنشطة تجارية تدعم استقطاب المستهلكين إليها.

وختامًا.. إنَّ ما يتحقق على أرض الواقع من نتائج اقتصادية إيجابية والتوقعات المستقبلية بشأن مزيد من الاستقرار المالي والتعافي التدريجي من تداعيات الأزمات السابقة، كل ذلك يدفعنا إلى تكثيف العمل لمواصلة التحفيز الاقتصادي، بآليات غير تقليدية ووسائل جديدة تستفيد من المُقومات المُتاحة، وتفجر الطاقات الإبداعية، خاصة لدى فئة الشباب، فهم قادة المستقبل وبناة الغد، عندئذ سنرى عُمان التي نريد، عمان الازدهار والنماء والاستقرار.