دوامات من الجحيم

 

عائشة السريحية

ذرات الغبار تناثرت إثر حركة يده وهو ينفض الصخرة ليجلس عليها، دس يده في جيبه وأخرج منظارا مكبرا وجلس منتشيا على الصخرة لا يشوش هدوءه سوى تسارع نبض خطوات على الشارع، لتتوقف فجأة وتتمدد موجات صوتية أخرى لتصطدم بقوقعة أذنه:

"يالك من جبان يا رائد، تكتفي بالمشاهدة من بعيد".

قال تلك الجملة وهو يلهث، بينما ظل رائد متشبثا بمنظاره تبتسم شفاهه باسترخاء وأجاب:

"المنظر من بعيد أجمل بكثير".

حنق ماجد وقال:

"إنهم يقتتلون! وأن تستمتع بالمنظر من بعيد!"

ثم أردف:

"يالك من مريض".

أزاح رائد المنظار عن عينيه وحدق بوجه صاحبه وقال:

"إنها نعمة أن أكون في سلام، لا يُراق دمي، من أجل خلافات حمقاء،  لقد تحدثت أنت معهم كثيرا ياماجد، لكنهم أصروا على تصفية حساباتهم، أخبرني الآن! مع أي جهة ستقف".

تلعثم ماجد وهو يفكر فعليه أن يختار، ثم حسم الأمر وقال:

"لن أختار أحدا، فلا علاقة لي بخلافاتهم"

ضحك رائد وقال:

"إذن استرح وشاهد معي"

رد ماجد معترضا:

"أنا لم أقل أني لن أتدخل، قلت فقط أني لست مع أحد"

"حسنا كيف ستصل معهم لاتفاق؟"

"لا أعلم، لكني سأحاول"

قام رائد من مجلسه ونفض الغبار الذي علق بثيابه وقال:

"إنهم ليسوا أغبياء، ولكن شهوة النصر أغلقت عقولهم"

التقط ماجد حجرا واعتصره في باطن كفه، ثم استدار وقذف به بعيدا، وقال بصوت يبدو وكأن الانكسار قد لفه كمومياء قديمة وقال:

"أشعر بالحزن وقلة الحيلة"

اقترب رائد منه مريحا كفه على كتف صديقه وقال:

"لتتعلم الدرس، عليك أن تجرب، وكي تجرب عليك أن تضحي، والتضحية أحيانا تكلفك غاليا"

عاد لمكانه وأشار لماجد بالجلوس بجانبه وقال:

"لو أنك تحدثت مع كلا الطرفين فسيطرحون لك رؤاهم بما يجعلك تبرر لهم ما يفعلونه، أتركهم يتعلمون الدرس".

طأطأ ماجد رأسه واتجه حيث أشار صديقه وجلس، يخط التراب بأنامله، وكأنه ينتظر حلا من حيث لا يحلم ولا يتوقع، لحظات صمت كسرها صوت رائد وهو مثبت بصره على منظاره قائلا:

"سيتقاتلون، ثم سينزفون، ويستهلكون، ويخسرون، فلا رابح في أي حرب، ثم سيقيمون المناسبات، وينشدون الملاحم، ويصنعون أبطالا للأجيال الأخرى، ثم سيكتبون سير وتواريخ، ثم يرحلون".

أنزل منظاره والتفت لماجد وقال:

"ولو أنك تدخلت الآن وانحزت لجانب منهم أو تدخلت ولكنك لم تقف مع أحدهم، سينسون كل حروبهم مع الخصم بعد زمن، لكنهم سيتذكرونك وينعتونك بالجبن، والخيانة .

اتبعت حدقتا ماجد وقال:

"وما علاقتي بهم أردت فقط أن أجد حلا لهم"

تأمل رائد منظاره وقال:

"لقد اتسخت العدسة قليلا"

وشرع ينظفها ثم قال:

"يا صديقي لتعلم جيدا أن أوقات الرخاء تصنع أقواما ضعفاء، فتأتي على الناس أوقات صعبة جدا، وهذه المعاناة تصنع رجالا أقوياء، فيغيرون المعادلة ليعيدوا أوقات الرخاء، وحين يألف الناس ذلك يضعفون، وهكذا"!

لم يفهم ماجد حقا ماذا يقصد رائد، فهم الأخير أن صديقه مشوش فثبت بصره أمامه وقال:

"إن الحياة تتجاوز معنى أن تكون الصراع بين رحلتي الجوع والشبع، وتتخطى حدود غريزة البقاء، إن الإنسان في بعض الأحيان يتصرف معها وكأنه إله، وينسى أنَّه مجرد كائن مقهور بالموت والتعب والجوع والشيخوخة، هم لن يعوا الدرس حتى يخوضوا التجربة، انظر إليهم جيداً، كسرت نوافذ منازلهم، وتدمرت سياراتهم، وفقدوا بعض شبابهم، وسيبقى مجموعة منهم في السجن طويلاً بعد أن تأتي الشرطة وتقبض عليهم، وسيطرد بعضهم من وظائفهم، وستنقطع أرحامهم لأن حارتيهم متجاورتان".

زمّ شفتيه، وقال:

"أنا لست جبانا يا ماجد، لكن لا أرغب أن أقحم نفسي في ما لا علاقة لي به، هم من اختلفوا وهم من اختلقوا الصراع، وهم من يتوجب عليه دفع الثمن."

أعاد تثبيت عينيه على فتحة منظاره ثم أطلق صيحة صغيرة وقال :

"ها قد أتى رجال الشرطة، وسيارات الإسعاف، وارتفع العويل والبكاء، انتهت المعركة، لكن آثارها ستظل طويلا عالقة في ذكريات صغارهم، فقد أورثهم الأغبياء ملف الأسى الكبير، ولعلهم يتعلمون"!

وضع منظاره في الحقيبة، ثم قال قبل أن يغادر مودعا صديقه:

"إن منظاري، سجل كل شيء، سأجني من نشر هذا الفيلم الوثائقي ثروة" أطلق ضحكة طويلة تبددت وهو يتماهى مع ظله في لحظات الغروب، وماجد صامت لا يستطيع حتى التعليق ولو بكلمة إلى اللقاء.