القيمة المحلية المُضافة.. الواقع والمأمول (1- 3)

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

يُشير التحليل التاريخي لتطورات النمو الاقتصادي في سلطنة عُمان على مدار 5 عقود خلت، إلى مجموعة من الحقائق منها الإيجابيات؛ إذ حققت قفزات تنموية نُفاخر بها العالم في مختلف الأصعدة، إلا أننا لسنا بصدد الحديث عنها في هذه الأسطر.

كما تضمنت هذه الحقائق، في الوقت نفسه، سلبيات، من بينها أن الاقتصاد العُماني سجل تنوعًا متواضعًا من حيث القيمة الحقيقية باتجاه القطاع غير النفطي، فضلًا عن أن إنتاجية عوامل الإنتاج (Total Factor Productivity) لم تُقدم مُساهمة كبيرة في النمو الاقتصادي، ناهيك عن أنَّ السلطنة تُعاني- كغيرها من الدول النفطية- من مشكلات اقتصادية، وضعف دورة الأنشطة التجارية المحلية. ويُعزى ذلك إلى عدة أسباب؛ منها: أنَّ حركة دوران الأنشطة الاقتصادية والتدفقات النقدية تسير في اتجاه واحد للحصول على دخول من صادرات أولية خام، مُعظمها خام (نفط وغاز)؛ حيث تتصف هذه الصادرات بمحدودية الإنتاجية والتطوير والابتكار والمكون التكنولوجي والقيمة المُضافة، وخروجها لمُقابلة تلبية الطلب المحلي من السلع والخدمات.

إحصاءات ميزان المدفوعات تؤشر إلى تدفقات مالية ضخمة إلى الخارج، فهناك ارتفاع مطرد في فاتورة الواردات من السلع؛ حيث بلغت 7.3 مليار ريال عُماني في عام 2020، بينما بلغت فاتورة الواردات من الخدمات 3.2 مليار ريال عُماني، أضف إلى ذلك تحويلات العاملين الأجانب داخل السلطنة إلى خارجها، والتي بلغت 3.4 مليار ريال عُماني، وتحويلات أرباح الشركات الأجنبية البالغة 1.2 مليار عُماني. وهذه الأرقام تُمثل نسبًا مرتفعة من الإنفاق العام ومن الناتج المحلي الإجمالي.

ولا يخفى على أحد، التداعيات السلبية للخروج السريع لهذه الأموال من دورة الأنشطة التجارية المحلية، والتي تُعد من الكبائر في أدبيات التنمية الاقتصادية، وتؤدي إلى ضعف مُضاعف للإنفاق المحلي، بمعنى أنَّه مهما زاد الإنفاق المحلي العام والخاص، فإنَّ مُعظمه يخرج إلى الخارج، ويبقى الاقتصاد المحلي في تركيبته غير قادر على توليد فُرص عمل مُجزية؛ إذ إنَّ مُعظم أنشطته تتركز في الاستيراد والبيع والشراء.

العديد من الدول النفطية تنبهت لهذه المُعضلة، واتخذت تدابير وإجراءات من شأنها زيادة استقرار الأموال وتدويرها محليًا، من خلال إقامة أنشطة اقتصادية، وإنتاج سلع وخدمات يغلب عليها المكون المحلي، إضافة إلى أنها جعلت من مسار تعظيم القيمة المُضافة المحلية في مُختلف سلاسل الإنتاج والتصنيع مسارًا لا رجعة عنه.

وقد أكدتُ مرارًا ضرورة الالتفات إلى مُعالجة جذور الاختلالات الاقتصادية في السلطنة، كتلك المُرتبطة بضعف هيكل الإنتاج والتصنيع المحلي، وليس الاكتفاء بالحديث عنها، وأن إدخال تحسينات هُنا أو هُناك لا يُحقق النقلة النوعية المنشودة للاقتصاد العُماني، ولا يعزز قدراته على إيجاد فُرص عمل مجزية للأعداد المطردة للمواطنين، بدلًا من نوعية الوظائف الحالية.

وإذا ما تم النظر إلى الإنجازات التي حققتها السلطنة على مدار 5 عقود ماضية، في ملفات الإنتاج والتصنيع والتنويع بشكل عام بالمقارنة مع جاهزية عُمان على مُختلف الأصعدة، وتوافر البُنية الأساسية والموارد الطبيعية والبشرية، والمكانة المرموقة للسلطنة بين الأمم، وتسارع وتيرة الإنجاز في دول المنطقة، والمُتغيرات المُتسارعة في العالم، فإنَّ هُناك في المقابل تباطؤًا على المُستوى المحلي، وتكرارا لمسارات وأدوات تقليدية ولدت نتائج متواضعة.

وفي هذه المسألة يكاد لا يخلو حديث لقائد البلاد، جلالة السُلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- منذ توليه مقاليد الحكم، من الإشارة المُباشرة أو غير المُباشرة إلى ضرورة تعظيم القيمة المُضافة المحلية، والاستغلال الأمثل للموارد المحلية. وللموضوعية والأمانة، فإنه تمَّ ترجمة ذلك نسبيًا؛ حيث شرعت العديد من الجهات والشركات الحُكومية في تكوين دوائر مُختصة، وتعيين مديرين للقيمة المُضافة المحلية، وأصبحت القيمة المضافة في مطلع أحاديثنا الصحفية، وسلم أولوياتنا وغاياتنا الاستراتيجية.

إلا أنه وبرغم هذا، فإنَّ مؤشرات الواقع تدلل على غير ذلك؛ إذ ما زالت الشركات المحلية- خصوصًا الصغيرة والمتوسطة منها- غير قادرة على اختراق الدولة العميقة الراسخة في المناقصات الحكومية والشركات الكبيرة؛ سواء أكانت حُكومية أم خاصة، فمهما كانت نوايا رؤساء الوحدات والشركات صادقة، فإن التنفيذيين والفنيين والأصدقاء "سوريش" و"شيبو"،  لهم رأي آخر يتعلق بالمواصفات والمقاييس والأمن والسلامة وضمان وخبرة الإنجاز، فضلًا عن وجود الكثير من المُمارسات الذكية التي يتم اللجوء إليها، بغية تخفيف قيود مُتطلبات القيمة المُضافة، يعلمها من يعلمها، ويجهلها من يجهلها.

وحسب الإحصاءات الرسمية لميزان التجارة الخارجية، فإن 32% من واردات سلطنة عُمان هي سلع استهلاكية نهائية، (يُمكن إنتاج جزء كبير منها محليًا؛ سواء من خلال شركات محلية أو من خلال الشراكة الأجنبية)، وتُعد هذه النسبة مرتفعة جدًا، فمثلًا دولة مثل تركيا لا تزيد نسبة تلك الواردات على 7% فيها. أما في مجال الخدمات، فتُشير الإحصاءات إلى أن سلطنة عمان تعاني من عجز مزمن وهي مُستورد صافٍ للخدمات؛ الأمر الذي يُمثل فُرصة لتعظيم القيمة المُضافة المحلية، بهدف تغطية العجز المحلى في مجالات الخدمات المُختلفة. ويشير حساب الخدمات إلى خُلاصة نتائج المُعاملات الخدمية بين المُقيمين في الاقتصاد المحلي وأولئك في الاقتصادات الأخرى، المُرتبطة بخدمات الشحن والسفر، سواء لأغراض شخصية مثل السياحة والعلاج والتعليم والتأمين، وغيرها من الخدمات، ذات الأهمية المُتزايدة في التجارة الدولية، مثل الخدمات المُتعلقة بالاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والاستشارات. وعليه، تُعد الخدمات إحدى القنوات التي تُعيق تحقيق التوازن المُستهدف لميزان المدفوعات، ما يُظهر الحاجة إلى تدخل الحُكومة والقطاع الخاص، على حد سواء، بُغية التخفيف من نزوح الأموال إلى الخارج، مُقابل توفير الخدمات محليًا، وذلك من خلال تأهيل واحتضان شركات محلية، وجذب الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الخدمات المُختلفة.

هُناك مُبررات تفرض تغيُّرات جوهرية في وضع برنامج القيمة المُضافة المحلية موضع التنفيذ، فضلًا عن تغييرات في إدارة وتنظيم الاقتصاد العُماني، ودور القطاع الخاص، فالتغيير سُنة كونية. ومرحلة النمو الحالية واستحقاقات المرحلة، تفرض إطلاق وتشغيل قاطرات التنويع المُختلفة، لتعظيم الاستفادة مما تمَّ تحقيقه، الأمر الذي يحتاج إلى تكثيف نشاط الابتكار، واستخدام أدوات وأساليب جديدة، يملكها القطاع الخاص.

ليس خيارًا لنا تحقيق تحوُّل هيكلي يستند إلى تمكين القطاع الخاص، وتفعيل دوره المحوري في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، للانتقال إلى نموذج جديد يقوم بصفة رئيسة على العمل والاستثمار والإنتاج والتصدير، كبديل للنموذج الحالي القائم على الحُكومة والاستهلاك والاستيراد والعمالة الوافدة. نموذج تتعدد فيه مُحفزات وقاطرات النمو، ويستند على القيمة المُضافة المحلية.

وأؤكد أنه لا مناص من تغيير فلسفة إدارة توازن دورة الأنشطة التجارية المحلية، بمعنى التحول من اقتصاد مُستهلك ومُستورد إلى اقتصاد مُنتِج ومُصدِّر، ولا مناص من إدارة توازن الدورة الاقتصادية (حكمة ورصانة السياسات المُتبعة أثناء ما يُمكن وصفه بالسنين السمان وتلك العجاف للدورة الاقتصادية المحلية في الأجل الطويل)، ولا مناص أيضًا من إدارة توازن وتكامل العلاقة بين الحُكومة والأفراد والأُسر وشركات القطاع الخاص (تُحدد هذه العلاقة الأولويات وفق الاهتمامات المُتقاطعة).

ولتسريع الخُطى، وبدء مرحلة جديدة من الإنجاز، فإنَّ المرحلة المُقبلة تتطلب تغييرات جوهرية في إدارة ملف القيمة المُضافة المحلية ليكون أكثر إيمانًا بأننا نستطيع أن نستثمر ونُنتج ونُصنع ونُصدر من سلطنة عُمان إلى دول العالم أجمع.. ويتوجب أن نكون مؤمنين بأننا في بداية طريق طويل يستوجب ترسيخ ثقافة القيمة المُضافة المحلية، والتي ما زالت محدودة وتتطلب دعمًا وتمكينًا من الحُكومة بالأُطر المُناسبة.