إستراتيجية الخَلْق

 

عباس آل حميد

﴿وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَٰطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ﴾ [ص 27]

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء 16-17]

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان 38-39].

لم يخلق الله السماوات والأرض وما بينهما عبثًا وباطلًا ولهوًا، وإنما خلقها لغرض ورؤية عظيمة حددها في قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾  [المؤمنون 115]. فالرجوع الى الله والقرب منه هي الرؤية الإستراتيجية والغرض الأساس من خلق الكون كله ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.  [البقرة، 156].

لكن كيف يكون القرب من الله؟ وما الآلية التي تحققه؟ أو بعبارة حديثة: ما الرسالة الإستراتيجية من خلق الكون؟ يجيبنا الله عز وجل على ذلك بقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [المُلك: 2]

فالله خلق الكون في نظام من الأضداد، من الموت والحياة، ومن النقص والزيادة، ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1] والشر والخير، فقال: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35] لتخلق زخمًا وحركةً في الحياة تدفع الإنسان بشكل تلقائي من خلال حركته وكدحه فيها نحو التكامل والتطور والقرب منه سبحانه وتعالى. ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، لنكون النسخ الفُضْلَى من أنفسنا. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وليخرجنا ﴿مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257].

ولتسريع حركة الحياة من حولنا لتحقيق هذه الرسالة العظيمة خلقنا جل وعلا تكوينًا ﴿مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ﴾ وجعلنا ﴿شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ [الحجر:ات 257]، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 48]، وفضَّل بعضنا على بعض ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165]، وخلقنا ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، بأبعادنا الأربعة: الجسد، والعقل، والقلب، والروح. ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29] حتى يمكننا الاستفادة من كل هذا الجدل والتضاد في الحياة من حولنا وفي أنفسنا ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 8] للتطور والتكامل والقرب من الله عز وجل.

ولذلك أيضًا سخَّر لنا الكون كله ليُعيننا ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: 13]، فجعل ما على الأرض زينة لتدفع للحراك في هذه الحياة نحو الله ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7] ثم أمرنا بالسعي فيها ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15] لنحقق بذلك عبوديتنا لله والإذعان له سبحانه وتعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، لنحقق بذلك أعلى درجات التكامل والقرب منه سبحانه، ونستحق أن نكون خلفاء الله في أرضه، ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

هناك إذًا إستراتيجية واضحة ودقيقة من خلق الكون، وليس الأمر عبثيًا، ولأننا شركاء في هذه الإستراتيجية ومنفذوها فلم يخفها الله علينا، بل بيَّنها لنا بوضوح في كتابه الكريم، وأمرنا بالسعي فيها بكل ما أويتنا من قوة ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]، والتسابق إليه سبحانه ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: 10- 11]، والتنافس على ذلك ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26] لنحقق النجاح والفوز العظيم ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 19- 21] و﴿ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].

أما منهجية السعي في الحياة لتحقيق هذه الإستراتيجية العظيمة فقد حددها الله في الإسلام ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وفصّلها وبيّنها في كتابه العظيم ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، وقال جلَّ في علاه: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: 155].

فعلينا سبر أغوار هذا القرآن العظيم، واكتشاف كنوزه للسير على هداه، ولكن بمعية ومساعدة ثقله الآخر الذي بيّنه الرسول في حديثه الشريف الذي ورد في صحيح مسلم، والترمذي وفي مسند الإمام أحمد، وفي مستدرك الحاكم، وسنن أبي داود وفي عشرات الكتب وبأسانيد صحيحة بشرط الشيخين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".

تعليق عبر الفيس بوك