الموت والغرور

 

بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

 

بالأمس القريب، رحل عنَّا أحد الزملاء الذين صحبناهم أيام الدراسة الثانوية، ثم جمعنا القدر أن سكنا معاً عند دخولنا إلى الجامعة في سكن مشترك مع مجموعة من الطلبة. وقد رحل صاحبنا- رحمه الله- بسكتة قلبية أثناء وجوده في العمل، مُخلفًا صدمة في قلوب أحبابه، الذين عرفوه مبتسماً ضاحكاً مازحاً متواضعاً. وبالرغم من أنَّ الاتصال بيني وبينه قد انقطع منذ مدة، إلا أنه من القلائل الذين أتذكرهم بين الفينة والأخرى بسبب شخصيته البسيطة المتواضعة التي لم يجد الكبر والغرور إليها سبيلا.

وأنا أتلقى هذا الخبر، ومن قبله بأيام قليلة خبر وفاة ثلاثة أشخاص في ريعان شبابهم من ولاية نزوى بسكتات قلبية في يوم واحد، خطر بذهني مجموعة من البشر، ما زالوا -مع كثرة موت الفجأة- مُصرّينَ على امتطاء صهوة جواد الغرور والكبر والعجرفة، وكأنّهم مستثنوْنَ من قول الله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت"، مغترين بمناصبهم الإداريّة أو شهاداتهم العلميّة أو كثرة أموالهم أو جمال أجسامهم أو غيرها، مزينا الشيطان لهم أعمالهم، يرفضون إرجاع الحق إلى أهله، أو الاعتذار لمن أساؤوا لهم، بحجة العناد وقوة الشخصية، ويحتقرون النَّاس لأنهم يرون أنَّهم أقل منهم منزلة في الجوانب الدنيوية.

وفي هذا الصدد، نتذكر جميعاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يحذرنا فيه من الغرور والكبر، فقد روى ابن مسعود، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كبر! فقال رجل: إنَّ الرَّجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: إنَّ اللَه جميل يحبُّ الجمال، الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس". وهنا يُحدد الرسول الكريم التعريف الحقيقي للكبر، فهو ليس مظهرًا حسيًا يتمثل في لبس ثوب غالٍ، أو شراء سيارة فارهة، أو بناء منزل كبير، فهذه وإن كانت في بعض الأحيان من مظاهر الكبر والخيلاء، فهي ليست سوى المظاهر الطفولية له، لكنَّ الكبر الحقيقي مرض قلبي عميق، واضطراب داخلي شديد، وعقدة نفسية مُتأصلة، تظل قابعة في نفس المتكبر، ولا تظهر إلا في مواقف مُعينة، حين يواجه معركة الحق والباطل، فَيُطْلَبُ منه الاعترافُ بالحق، فيرفضُ الإذعانَ له، لأنه يحتقرُ أولئك الذين يطلبونَ منه أن يُؤدي حقوقهُ لهم.

ومن هنا، فإنَّ مفهوم التواضع هو أيضًا مُساءٌ فهمه، فالمتواضع في نظر الكثيرين هو ذلك الإنسان الذي يصافحك بكلتا يديه، ويلقاك مبتسمًا، ويمازحك، ويقربك في المجالس. وهذه أشياء مطلوبة من المؤمن ويُشجع على فعلها، لكنها ليست دليلا قاطعا على التواضع، فكم من أمثال هؤلاء من يسقط في فخ الكبر عند أول اختبار يطلب منه فيه أن يعترف بالحق، فتجده مزمجرا غاضبا يريد أن يدمر كل شيء حوله، ذلك أنَّ نفسه المتلبسة بالكبر والغرور ترفض أن يفرض عليها شيء يجرح من كبريائها المتوهم ومن غرورها المتخيل، بل يرفض النصيحة التي توجه إليه، ويعدّها تدخلاً في شؤونه الخاصة، وليس من حق أحد أن يمنعه من ممارسة ظلمه وكبره على الآخرين، أو أن يقول له إنّ ما تفعله خطأ، فتظهر حقيقته المخبأة تحت الابتسامات المصطنعة والتواضع الشكلي، وأذكر أنني في إحدى المرات، صححتُ لأحد الزملاء المذيعين المشهورين خطأ لُغَوِيًا، فردَّ عليّ غاضبًا "أنت أصغرُ من أن تُصحح لي لغتي"!. وقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه المشهور "إحياء علوم الدين" 7 أسباب للكبر والغرور، أوردُها لك أيها القارئ الكريم مرتبةً كما جاءت في الكتاب، بشيء من التصرف، وهي: التكبر بسبب النسب، وما أكثره في مُجتمعنا العماني؛ حيث يرى البعض نفسه أنَّه منتمٍ إلى طبقة أو قبيلة أعلى من الآخرين. والتكبر بسبب الجَمال، وهذا يكثر عند النساء. والتكبر بسبب القوة والسلطة، وهذا أكثره عند المسؤولين من أصحاب المناصب؛ حيث يتكبرون على موظفيهم وقد يظلمونهم. والتكبر بسبب الغنى وكثرة المال، وهذا أحمقُ أنواع الكبر حيث إنه مقرون ببقاء المال، فإن زال المال صار صاحبه ذليلًا. والتكبر بسبب كثرة الأولاد والأتباع، وهذا من أقدم أسباب الكبر، وذكر في القرآن مرات عديدة. والتكبر بسبب العلم، وهذه آفة كبرى؛ لأنَّ بقية أسباب الكبر تعالج بالعلم، فكيف يُعالج من كان العلم سببًا لكبره؟! والتكبر بسبب الورع والعبادة، وهذا يصدر من بعض المتدينينَ الذين يحتقرون غيرهم ممن هم مبتلوْنَ بشيء من المعاصي، فبدلاً من أن ينظروا إلى العاصي أنه مريض يحتاج إلى العلاج، ينظرون إليه نظرة المجرم الذي يستحق العقاب. وقد اقترح الإمام الغزالي علاجات متنوعة لكل سبب من الأسباب المذكورة، مستشهدا بآيات الكتاب الحكيم وبأحاديث الرسول الكريم، وبحجج منطقيّة تجعل المتكبر يُراجع نفسه ويُعالجها، ويمكن لمن أراد الاطلاع عليها الرجوع إلى الكتاب.

وبعيدًا عن جميع ما ذكر من العلاجات المقترحة لمن تلبس بالكبر والغرور، فإنَّ مصارع الموتى حولنا هي أكبر علاج لذلك، والعجب كل العجب من أناسٍ تَفْرِضُ عليهم مهنهُم أن يشهدوا الموت أمام أعينهم وهو يفتك بالصغير والكبير، والمريض والصحيح،  كأصحاب المهن الطبية ومغسلي الموتى وحفاري القبور وغيرهم؛ حيث يفترض أن يكونوا أكثر الناس اتعاظًا بما يسمعون ويرون، إلا أنَّ البعض للأسف ما زال ينظر إلى نفسه بنظرة العظمة، وإلى الآخرين بنظرة الدونية، دون أن يُحرك ما يشاهدونه في أنفسهم شيئاً يجعلهم يتراجعون عما هم فيه، ليصدق فيهم قول الله تعالى: "خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ، وعلى أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ".

تعليق عبر الفيس بوك