عباس العقاد بين السياسة والحرية

 

عبد الله العليان

عُرِفَ عن المُفكر والأديب الأستاذ عباس محمود العقاد، التصاقه بالحُرية كفطرة إنسانية التصاق الحياة بالمياه، في بيئته بصعيد مصر (مدينة أسوان) كما اهتم بالسياسة كثيرًا في حياته في تلك الظروف الصعبة؛ حيث عاش في فترة حربين عالميتين، بعضها جرت على أرض مصر التي كانت مُحتلة من قبل المملكة المتحدة، خاصة في الحرب العالمية الثانية، وبين ألمانيا النازية، وجرت في مرسى مطروح (شمال غرب) في عام 1942.

وجمع العقاد في حياته أيضًا بين السياسة والأدب والنقد، وكان- رحمه الله- موسوعيًا في سعة اطلاعه، والسياسة لازمته في حياته، بعدما صار كاتبًا بالصحافة لا يعرف المجاملة في قضية تقديم مصلحة وطنه كما يراها ويعيشها، وأدخلته حتى السجن نتيجة الجهر بالكلمة في تلك الظروف الصعبة. ولذلك خاض العقاد أصعب المعارك بسبب استمساكه بحرية الكلمة، في ظل معارك مُقابلة له لأسباب فكرية وسياسية ونقدية من خلال توجهات أيديولوجية لها مراميها وأسبابها، وهي التي جعلت العقاد أحد الرجال الذين يؤخذ رأيهم في الحسبان عند الاختلاف، وتأثيره الكبير في السياسات القائمة آنذاك.

تنقل العقاد بين عدد من الصحف للكتابة فيها، بعد استقالته من عمله بوزارة التربية، وهذه التنقلات لها أسبابها في استقرار تلك الصحف، وتوقف بعضها، أو توقف الكتابة فيها لأسباب سياسية. ويروي الكاتب سامح كريّم في كتابه "العقاد في معاركه السياسية"، قصة خروج العقاد من حزب الوفد بعد انضمامه إليه، بسبب اضطهاد بعض أصدقاء العقاد دون مبرر، كما يراها من قبل رئيس الوزارء آنذاك نجيب الهلالي، فكتب العقاد مقالًا ناريًا وبعد: "أيام دخل على رئيس الوزراء واستقالته في يده، واستدعى (مصطفى) النحاس العقاد في الإسكندرية، ولما قابله حدثت المناقشة المشهورة:

النحاس: لماذا تحمل على الوزارة يا أستاذ يا عقاد؟

العقاد: لأنها انحرفت عن الطريق السوي، وهي تماطل في إعادة الدستور وتعمل لصالح السراي (يقصد بها قصر الملك وحاشيته) ووزير معارفها يضطهد الوطنيين.

النحاس: ولكن الوفد يؤيدها، وعند توليه الحكم يُصلح كل شيء.

العقاد: أنا لا أستطيع أن أغض الطرف عن أعمال الوزارة ولن أقف موقف الإغضاء عن مساوئها وهي تتكشف يومًا بعد يوم.

النحاس: أنا زعيم الأمة أؤيد الوزارة فما عساك تصنع يا عباس يا عقاد؟

العقاد: أنت زعيم الأمة لأنَّ هؤلاء انتخبوك (مشيرًا إلى بضعة أشخاص وفديين) ولكني أنا كاتب الشرق بالحق.

النحاس: الوزارة باقية ما دام الوفد يؤيدها ويضع ثقته فيها.

العقاد: لن تنتهي برية هذا القلم إلا وقد انتهى أجل هذه الوزارة (وأخرج قلمًا صغيرًا من جيبه). وانصرف العقاد والحاضرون يتشبثون به ويلاحقونه حتى يزيلوا ما بينه وبين النحاس، ولكن العقاد أصر على الانصراف وكانت أول عبارة قالها بعد هذه المُقابلة لصديقه الجبلاوي: "لسنا مع الوفد بعد اليوم".

وجاءت أزمة الدستور الذي تمَّ تعطيله، وكان عباس العقاد عضوًا بمجلس النواب عن حزب الوفد في عام 1930، وبدأت القضية، ويقول الكاتب أحمد إبراهيم الشريف في عام 1930عندما: "أعدت حكومة النحاس باشا، قانونًا لمحاكمة الوزراء الذين يعتدون على الدستور، وقدمته للملك فؤاد لتوقيعه ثم إحالته للبرلمان، وكان الغرض من إصدار هذا القانون صيانة النظام الدستوري لمصر وحمايته لكن الملك فؤاد امتنع عن توقيع مرسوم القانون، ولم يُرسله إلى البرلمان فقررت الوزارة (الحكومة) تقديم استقالتها احتجاجًا على تعطيل صدور القانون". واشتهر العقاد كعادته بأنَّه لا يعرف المجاملة أو السكوت عن تعطيل الدستور خاصة عندما أراد الملك فؤاد حذف بعض العبارات التي وضعت والتي: "تنص إحداهما على أنَّ الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان رافضًا ذلك، ومهددًا الملك فؤاد".

وعندما حضر أعضاء حكومة مصطفى النحاس بمجلس النواب، وكان العقاد حاضرًا كعضو بمجلس النواب، تحدث بعض الأعضاء من حكومة النحاس، وأعضاء البرلمان، فطلب العقاد الكلمة، في قضية محاولة تعطيل بعض مواد الدستور فقال: "حضرات النواب، أرى أن مجلس النواب لابُد أن يكون له موقف حازم وواضح من هذا العبث السياسي؛ لأن الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء فحسب؛ بل هي أزمة مجلس النواب نفسه؛ بل أزمة الدستور المصري وليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته". فأحدثت كلمة العقاد دويًا كبيرًا في مجلس النواب، واعتبرت من قبل القصر أنها إساءة للملك، أو العيب في الذات الملكية، وفي شهر أكتوبر 1931، قدمت مذكرة من النيابة للتحقيق مع عباس العقاد، بسبب العبارة التي قالها في مجلس النواب أثناء مناقشة حذف الفقرات من الدستور (أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس في البلد في سبيل صيانة الدستور وحمايته).

في كتاب عباس العقاد "عالم السدود والقيود"، تحدث العقاد عن تجربته في السجن، وفي مقدمة هذا الكتاب قال: "هذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته، وفكرت فيه يوم كنت أنزل "عالم السدود والقيود"، وأشعر ذلك الشعور وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر، لست أعني بها أن تكون قصة، وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعني بها أن تكون بحثًا في الإصلاح الاجتماعي وإن جاءت فيها إشارات لما عرض من وجوه ذلك الإصلاح، ولست أعني بها أن تكون رحلة، وإن كانت الرحلة في كل شيء". ولا شك العقاد امتاز بشجاعته الفائقة في قول كلمة الحرية، دون الالتفات إلى نتائجها بعد اعتقاده بصحة رأيه.

وفي كتابه "حياة قلم"، يذكر عباس العقاد، معاناته مع بعض الصحف آنذاك، وتنقله بين الصحف، وتوقفه لعدة فترات من حياته عن الكتابة، إما بسبب موقف الصحف من مقالاته الجريئة، أو بسبب تعثر هذه الصحف، بسبب الظروف المالية، فيقول العقاد: "كان الأستاذ فريد وجدي يصدر مجلة شهرية تسمى "الحياة"، ويكتب فيها أحيانًا مقامات خيالية تسمى بالوجديات، ثم تفرغ- فريد وجدي- لإصدار مجلة الدستور، وترك المجلة إلا في فترات متباعدة يعاودها كلما اجتمع لها مادة الفصول الأدبية ما يملأ عددًا من أعدادها، وربما اختار بعض هذه الفصول من مقالاتي التي كنت أنشرها في الصحف اليومية". لكن هذه الصحيفة لم تستمر، وتوقف أمر صحيفة الدستور، دون أن أدري ما هي الأسباب، ويضيف العقاد في سرد مقاله "أزمة قلم" عن قصة صحيفة الدستور وعدم صدورها من فريد وجدي، فيقول: "ومضت الأسابيع ولم أسمع من الأستاذ خبرًا عن هذه الفكرة، ولم أصل من دراستها بيني وبينه إلى نتيجة تدعو إلى الثقة بنجاحها، فوجب البحث عن عمل لي في الصحافة، أو ما يناسب الصحافة، ولكن ما العمل الذي يتيسر لي عند طلبه على عجل، ولا بد من العقل، ولا طاقة بالانتظار".

فاتجه العقاد للكتابة في جريدة "اللواء" التي أسسها مصطفى كامل، وكانت تمثل الحزب الوطني آنذاك، والتي أدارها بعده محمد فريد، لكنها واجهت الكثير من المشكلات السياسية وتوقفت، فاتجه العقاد للكتابة في جريدة "المؤيد" التي يرأسها الكاتب علي يوسف، ويضيف العقاد: "كانت الجريدة (يقصد المؤيد) أسلم الصحف من الزعازع وأشباهها، ولكنها على هذا لم تسلم من ضربات خصومها السياسيين، وفي مقدمتهم الحاشية الخديوية، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية".

لكن العقاد اتِّجه إلى التأليف، في الفترة التالية من حياته خاصة الإسلاميات والعبقريات، وكتابة الكثير من القضايا الفكرية والفلسفية، مع استمراره في الكتابة الصحفية في الجرائد المستقلة بالأخص استمراره في سنواته الأخيرة في الكتابة بجرائد مؤسسة اليوم المصرية.. فكيف توجه العقاد فكريًا بعد ذلك؟ هذا له حديث آخر.