مجتمع المظاهر

عبدالله الفارسي

(1)

كنت أتابع كعادتي فيلما وثائقيا جميلا عن حياة وسلوك السناجب، لا أدري لماذا أعشق برامج الحيوانات وأفلامها أكثر من مسلسلات البشر وتمثيلياتهم وأكاذيبهم السخيفة!

شدني الوثائقي بشكل عجيب وعلمني معلومات جديدة ومثيرة عن هذه المخلوقات الجميلة الصغيرة والتي تسمى السناجب. أخبرني الفيلم الوثائقي أن السناجب حيوانات جماعية مُتحابة متعاونة جدًا، تحب بعضها بشكل عجيب وتتقاسم أرزاقها فيما بينها بمنتهى الحب والأثرة. ومن عجائب السناجب أنَّ الذكر حين يهم بمغازلة الأنثى لا يأتي إليها خالي الوفاض؛ بل يحضر معه هدية؛ حيث يُقدم لها هدية عينية فإذا قبلتها الأنثى منحت الذكر قبلتين ساخنتين في خده الأيمن وخده الأيسر، ثم عناقًا حميمًا.

أيضًا من المعلومات المثيرة للدهشة أن أنثى السنجاب إذا عثرت على سنجاب رضيع في مكان ما احتوته واحتضنته وجلست معه فترة طويلة ربما تصل لساعات انتظارًا لأمه الغائبة، وإذا لم تعد الأم، حملت أنثى السنجاب الرضيع معها وتبنته ورعته كأحد صغارها.

اندمجتُ مع الوثائقي درجة الانغماس حتى أنني تمنيت لو كنت أنثى سنجاب تعيش في مُجتمع متناغم متحاب مترابط متعاون متجانس ومعبأ بالحب والتفاني، يالله ما أروعك أيتها السناجب!

(2)

أتمنى من وزارة التربية والتعليم أن تضيف موضوع "حياة السناجب" في مقرراتها، فكم نحن بحاجة ماسة وملحة جدًا إلى أن نعلم أبناءنا شيئاً من أخلاق وسلوك السناجب!

(3)

حين تتهاطل عليك الرسائل الرمضانية الإيمانية كل صباح ومساء تشعر للوهلة الأولى بأنك تعيش في مُجتمع طاهر فاضل جميل ورائع ومتحاب لدرجة لا يًمكن رسمها أو وصفها. لا.. لا.. لا صدقوني، تلك مجرد رسائل واتسابية للاستهلاك اليومي لأجل حجب وتغطية الوجه القبيح للواقع الأخلاقي المزري الذي نعيشه.

(4)

قبل شهر رمضان الذي يجيد فيه الناس تمثيل دور الصالحين المتبتلين الساجدين العاكفين على المصاحف، سألني صديق عن شخص ما، فرد من أفراد هذا المجتمع، فقلت له: لا أعرفه. فضحك وقال لي: كيف لا تعرفه وهو صاحب السيارة الفخمة نوعها (**) والتي تحمل الرقم المميز (**). فقلت له: هذه العلامات لا اعتمد عليها في معرفتي بالآخرين وهذه الإشارات لا استخدمها في الاهتداء إلى الطريق ولا أضعها ضمن عقيدتي السلوكية.

الحاصل حاليًا أن مقياس الناس أصبح ليس أخلاقهم وكرمهم وثقافتهم ومواقفهم النبيلة وعقولهم الكبيرة؛ بل هو نوع سيارتهم وأرقامها المميزة، لدرجة أن بعضهم يشتري سيارة ضخمة بقرض بنكي كبير لا يتناسب مع راتبه الهزيل لأجل أن يرفع من قيمته الاجتماعية، وكثير من الأثرياء يشترون لسياراتهم أرقامًا ثنائية أو أحادية بمبالغ طائلة، ممكن أن يفتح بها ملجأ لأيتام أو مركزًا متطورًا لرعاية أطفال مرضى التوحد الذين يتكاثرون في مجتمعنا دون أن يكترث بهم أحد في هذا الوطن الجميل.

في مجتمعنا للأسف تُقاس قيمة الإنسان بقيمة سيارته ورقمها وببيته وأرضه وموقعها ومساحتها.. بهذه الطريقة الفجَّة القبيحة تقاس قيمة الإنسان.. وهنا تلقائيًا تصبح كل المعايير الأخلاقية الرفيعة لا قيمة لها في الميزان المجتمعي.

إذا كنت لا تملك سيارة ضخمة من نوع مُعين ولا تلصق عليها رقمًا ثنائيًا أو ثلاثيًا مميزًا فأنت إنسان نكرة مجهول الهوية. يا لها من حقيقة موجعة! مجتمع يضعك في ميزان المادة ويقيسك بمقياس التفاهة.

قبل سنوات ليست بعيدة، كان الناس أيضًا يقاسون بمقدار مالهم وثروتهم ولكن كانت النخوة والرجولة والشجاعة وحسن الخلق منافس عنيد وشرس في ميدان قياس قيمة الإنسان. سنوات بسيطة أنقلبت الموازين وسقطت الأخلاق في الحضيض.

الخطورة ليست هنا، وليست اليوم، الخطورة ستكون غدًا، حين يتحلل المجتمع ويتجرد تمامًا من أية قيمة معنوية وأخلاقية.

أبناؤنا الآن يشاهدون هذه المعايير عن كثب ويمتصون هذه الأفكار الدنيئة والمضامين الساقطة بكل هدوء، ومع مرور الوقت ستصبح هذه المعايير الرديئة في نظرهم هي المقاييس الحقيقية والمعايير الأصلية في مجتمع يمتلئ بالمساجد ويعج بالمآذن وتتشدق منابره بالدين والإيمان.

كم راتبك؟ وأي سيارة تركب؟ هنا تكمن قيمتك الحقيقية في المجتمع!

الفقير البسيط ذو الخلق النبيل والسلوك الرفيع غالبًا يكون خارج القائمة مشطوبًا منها.

(5)

قبل سنة ونصف السنة تقريبًا- إن لم تخُنّي ذاكرتي المليئة بالعفن والملح والصدأ والغبار- جاءني أحد المعارف يخبرني عن قصة أحد الشباب البسطاء من أقاربه، وهو شاب كغالبية الشباب الذين لا يملك أهاليهم سوى دخل شهري بسيط يطعمون به أولادهم وبناتهم. هذا الشاب يعمل في شركة أحد أصحاب المليارات براتب 435 ريالًا، وهو خريج جامعي، لكنه اضطر اضطرارًا لأن يقبل بهذا الراتب ليعيش ويتنفس ويدفع عن نفسه شبح الموت الذي يُحاصره من كل الاتجاهات. مُطبقًا قول الشاعر: إذا لم يكن سوى الأسنة مركبًا // فليس على المضطر إلا ركوبها.

أراد هذا الشاب الطيب أن يتزوج، وأراد أن يحبس نفسه في قفص ذهبي ويعيش سجينًا البقية الباقية من عمره.. وهذا طبعًا حلم كل شاب لا يرى أمامه أي أفق وينعدم معه أي أمل لتحقيق أي طموح أو السعي إلى الوصول إلى غاية ما في هذه الحياة. فحين تكون كل الأبواب مؤصدة وكل الأحلام مصادرة، يكون اختيار أسرع النهايات أمرًا حتميًا لكل شاب، وأجمل النهايات وأطيبها هو الموت في القفص الذهبي!

خرج الشاب ووالده يقرعون الأجراس ويطرقون الأبواب، ورغم كثرة البنات وترهلهن في البيوت، إلا أنه لم يتلقَ جوابًا؛ فالراتب الضيئل الهزيل لا يشجع، والسيارة الصغيرة القديمة التي تقف أمام الباب لا تفتح النفس ولا تثلج الصدر ولا تبهج الفؤاد ولا تمنحهم الدرجة الاجتماعية المطلوبة. فأمام كل باب كان يستلم الجملة الثابتة المتكررة "لا نصيب لك عندنا"، حتى يأس الشاب وضجر والده.

ألتقيتُ أخوه ذات صدفة وأخبرني بالموضوع فقلت له: حين تذهبون لقرع الأبواب اذهبوا راكبين سيارة ضخمة فارهة تحمل رقمًا مُميزًا. فقال لي: ليس معنا سيارة ضخمة. فقلت له: استعيروها أو استأجروها من أي مخلوق بأيِّ ثمن. وفعلًا.. بعد أسبوعين استعاروا سيارة ضخمة فارهة من أحد أصدقاء أقاربهم لمدة ثلاثة أيام.

وبعد أن وقفت السيارة الضخمة المستعارة أمام باب العروسة تهللت الوجوه وسال اللعاب من الأفواه وأتت الموافقة سريعاً للشاب الفقير ذي الراتب الضئيل بفضل سيارة فارهة مستعارة لمدة يومين.

هذا هو مجتمعنا المحافظ الذي يتشدق بالدين والعفة والخلق والفضيلة والتواضع.. إذا ركبت سيارة فارهة الجميع سيرفع لك القبعة، وسترتفع لك الأصابع والأيادي إجلالًا وتوقيرًا. فكثرة المساجد والتي تصادفك في كل شارع وزقاق والتفاخر في بنائها وزركشاتها والركض إليها، لم تغير شيئًا من سلوك الناس مع بعضهم البعض ومعايير تقييمهم لبعضهم البعض.

هذا الوضع الخطير على وشك أن يتحوَّل إلى درجة المصيبة، والمصيبة تكاد أن ترتقي إلى مستوى الكارثة. نسأل الله السلامة والعافية وحسن الخاتمة.