جلال المشاهدة في المرآة الكونية (1- 3)

 

 

د. مجدي العفيفي

 

صار اقتناص الفرصة للتقابل مع الذات فوزا عظيما.. وصار التحاور مع النفس فوزا أعظم؛ بل أصبح الانفراد بها «مغانم كثيرة» أيضا، حدث ذلك في ثنايا الاحتفاء الكوني التي تغشى نفوسنا في ظلال مفردات : الفداء.. الرؤيا.. النار.. الذبح.. إسماعيل.. زمزم.. هاجر.. الوادي.. البيت.. السعي.. الصفا.. المروة.. القواعد.. التطهير.. الطائفون.. الركع.. السجود.. الحنيفية.. الوجه.. التوجيه.. السلام.. التسليم.. الإسلام... تلفني هذه المفردات المتوهجة وهجا يعد فيتمتد.. تدثرني بحوارات مسكونة بحوادث ومحاورات مشحونة بأحداث.. ودثارها نور ونار.. وأمل وألم.. واشواق وعذابات.. وشريط من المحطات طوله ملايين الكيلومترات.. من أبي الأنبياء الى خاتم الأنبياء من (إبراهيم) إلى (محمد).

***

وفي هذا السياق الكوني المهيب، ما أجمل أن تمتليء ذاتك بذوات الآخرين، والأكثر جمالا أن يكون «التوحيد » هو الرابط الذي يشدك إلى الامتثال في حضرة العلماء، والأسمى جلالا أن تحلق في أجواء أحسن ما أنزل الله إلى العالمين، أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، بل (أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم) (سورة الزمر:55).

ليلة.. ليلتان.. ثلاث ليال.. بصحبة عالم جليل، عاش قبل ألف عام، ولا يزال حيا في قلوب (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

إنه فخر الدين الرازي (الميلاد: 1149م، 544 هجرية، الوفاة: 1210م، 606هـ) أنصت إلى صوته من العالم الآخر: «لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب) وفي النفس (ليس كمثله شيء)، (هل تعلم له سميا).

« مفاتيح الغيب. التفسير الكبير».. جوهرة الرازي الثمينة التي لا تضاهيها جوهرة في بحار القراءات المتعددة للقرآن الكريم، فلكل عصر قرادته، ولكل عالم طريقته في القراءة، وما أحوجنا الى القراءات الكاشفة، التي لا تسير في طريق تعبنا من السير فيه، وتعرض علينا صورا شاهدناها من قبل مئات المرات.

سنوات وسنوات وأنا أنهل من ينابيع هذا العالم الفذ، ولم أرتو منها، وبعد لقاء معه لابد أن يهتف القلب (هل من مزيد). وكأنها من نهر النيل... من يشرب منه لا يشبع، ولابد أن يعود إليه، أو يفترض ذلك!

«مفاتيح الغيب. التفسير الكبير» ثلاثون جزءًا، الصفحة الواحدة تقرأها في ساعتين، فمن أسرار قراءة الرازي، انها يشتبك فيها التحليل اللغوي بالفقه بالتاريخ بالجعرافيا والفلسفة والمنطق والعلوم التطبيقية والكونية والدنيوية والأخروية والرياضية والنحوية والصرفية.

ثم هو يضع بين يديك خلاصة خمسة قرون من العلم المكثف الذي تركه السابقون، ويكشف بعد ذلك عن رؤيته وآرائه ومشاهداته القلبية وشهوده الفكرية، وكم من علماء معاصرين لنا الآن يغرفون منه، لكنهم- بلا حياء أو خجل- لا يعترفون ويحفظون للعالم الجليل أدنى حقوقه الأدبية.

تجليات الرازي كثيرة في نورانياتها.. كثيفة في غاباتها.غزيرة في لغتها ذات الأعماق البعيدة.. عزيزة في مضامينها التي لايتجادل معها إلا أولو الألباب..

آثرت أن نتشارك مع منظور الرازي إلى سورة الفاتحة، وما أدراك ما سورة الفاتحة، تلك الرائعة التي نرددها في 71 مرة كل يوم ونحن ندثر قلوبنا بالصلاة، لعل الله يرضى.

 أبدع الرازي إبداعا في كتلته السردية هذه عن سورة الفاتحة، حتى أنها استغرقت أكثر من 932 صفحة، وشغلت جزءا كاملا،

وما هذه السطور إلا مجرد ومضات، من شجرة نور «رازية»، رحم الله من أبدعها غرسا وزرعا ورعاية وعناية.

***

شواهد الألوهية.. ومشاهد العبودية:

تتجلى سورة الفاتحة مرآة كونية تطالع فيها كثيرا من شواهد الألوهية، ومشاهد العبودية، فقد جعل الله تعالى النصف الأول من الفاتحة في معرفة الربوبية، والنصف الثانى في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة.

وتتكشف فيها الشريعة، ومنهـا إلى الطريقة، ومنها إلى الحقيقة، من خلال خطوط الإتصال النورانية مع خواتيم سورة البقرة. وهي إذ تفتح للمؤمن ابواب الجنة الثمانية، فإنها تغلق المداخل الشيطانية الثلاثة: الشهوة والغضب والهوى. وتشكل الحركات السبع في الصلاة تماثلا مع عدد آيات الفاتحة السبع، وايضا مع مراحل خلق الإنسان السبع. كما تتجلى الفاتحة معراج المؤمن الروحاني والجسدي، فالشطر الأول منها مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الاسرار، والشطر الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها اسرار إلى مصاعد تلك الأنوار.

وتتوزع الأسماء الخمسة في الفاتحة(الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك) علي قواعد الإسلام الخمس، وأيضا على أنواع القبلة الخمسة، وعلى الحواس الإنسانية الخمس، وعلي مراتب أحوال الخلق الخمسة، كما تتنزل هذه الأسماء الخمسة الواردة فيها على المراتب الخمس في الذكر المشهور:سبحان الله، والحمد لله، ولا إله الا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وفي الفاتحة اسمان : أحد أسماء اسم الذات وهو (الرحمن) الذي يفيد تجلى الحق بصفاته العالية، ولذلك قال (قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى) وأحد أسماء الصفات وهو (الرحيم) الذي يفيد تجلي الحق بافعاله وآياته ولهذا السبب قال }ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما{.

الفاتحة.. مرآة كونية

حين تقرأ الفاتحة بقلبك وفكرك ووجدانك ونفسك وحدسك وحسك. تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، والأديان السابقة، وأسرار الكتب الإلهية، والشرائع النبوية، وتصل إلى الشريعة، ومنهـا إلى الطريقة، ومنها إلى الحقيقة، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين، ودركات المغضوب عليهم والضالين.

فإذا قلت (بسم الله الرحمن الرحيم) فابصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرض. وإذا قلت (الحمد لله رب العالمين) أبصرت به الأخرة (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). وإذا قلت (الرحمن الرحيم) فأبصر به عالم الجمال، وهو الرحمة والفضل والاحسان. وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال. وإذا قلت (اياك نعبد) فأبصر به عالم الشريعة. وإذا قلت (وإياك نستعين) فأبصر به الطريقة. وإذا قلت (اهدنا الصراط المستقيم) فأبصر به الحقيقة. وإذا قلت (صراط الذين أنعمت عليهم) فأبصر به درجات النبيين والصديقين والصالحين. وإذا قلت (غير المغضوب عليهم) فأبصر به مراتب فساق أهل الآفاق. وإذا قلت (ولا الضالين) فأبصر به دركات أهل الكفر والضلال على كثرة درجاتها.

***

والى اللقاء في الأسبوع القادم: للجنة ثمانية أبواب وفي الفاتحة مفاتيحها.. وخطوط الاتصال النورانية بين الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.