العفو من شيم الكرام

 

د. خالد بن علي الخوالدي

khalid1330@hotmail.com

 

يتجلى شهر رمضان المبارك عن غيره من الشهور بأنَّه شهر الرحمة والمغفرة والتسامح والعفو، ومع إن هذه السمات العظيمة تكون في كل الشهور إلا أن شهر رمضان تكون له الميزة الأخص من مضاعفة الأجر والثواب فالمولى سبحانه وتعالى قد جعل لهذا الشهر ميزة عظيمة لا توجد في غيره من الشهور فيكفي بأن الصائمين أجرهم مفتوح عند الله فقد قال عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به".

اليوم سيكون حديثنا عن التسامح والعفو، وهما من أعظم الصفات التي تميز بين المسلمون فليس كل مسلم متسامح ويعفو عن غيره ويتجاوز عن من يسيء إليه، والعفو صفة تميز بها المولى سبحانه ودعا عباده إلى هذه الصفة العظيمة فقال سبحانه "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف: 199). ما أعظمك من إله وما أروع من اقتدى واهتدى وسمع وانقاد لهذه الآية الكريمة التي بها من المعاني ما لا يمكن حصرها ولا تحديدها.

قصص كثيرة سمعناها ومرت علينا في العفو والتسامح ولعل أبرزها وأكثرها عبرة عفو سيدنا يوسف عليه السلام عن إخوته فقد كان سيدنا يعقوب- عليه السلام- يحب ابنه يوسف- عليه السلام-  أكثر من إخوته، فحسده إخوته على هذا الحب، فقرروا أن يتخلصوا من يوسف، فاستأذنوا أباهم في أن يأخذوا يوسف معهم إلى المرعى ليلعب ويمرح، فوافق، وأوصاهم به، فأخذوه معهم، وهناك ألقوه في بئر، ثم رجعوا إلى أبيهم في المساء يبكون، وأخبروه أنَّ الذئب قد أكله، فحزن الأب على فراق يوسف حزنا شديدا، ومرت قافلة، فوجدوا يوسف، فأخرجوه وأخذوه معهم، وباعوه لعزيز مصر، وتربى يوسف في قصر العزيز، ونتيجة لأخلاقه الحسنة، وعلمه الواسع، صار وزيرا لملك مصر، وفي أثناء ذلك، جاء إليه إخوته ليشتروا من مصر لأهلهم بعض الغذاء، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وكانت فرصة ليوسف لينتقم من إخوته، لكنه عفا عنهم، وقال لهم: "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف: 92).

إن مراتب العفو والتسامح لا يصل إليها أي مسلم، فهذه الأخلاق العظيمة لا يصلها إلا من جرَّد نفسه لله وجاهد نفسه وكظم غيظه ونظر بقلبه إلى المراتب العليا التي أعدها المولى سبحانه للعافين عن النَّاس، وإذا كان الصوم من العبادات التي لم يكن لها أجر محدد فكذلك العفو فقد قال الله سبحانه "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ".

وما أعظم عفوك وحلمك يا حبيبي يا رسول الله، فرغم ما فعله المشركون وكفار قريش من الأذى الجسدي والنفسي له وقد دخل مكة المكرمة منتصرا وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً، يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه الشريف وهو ساجد، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، وتآمروا عليه بالقتل، وعذبوا أصحابه وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكنه صاحب الأخلاق النبوية قابل كل الإساءات بالعفو والصفح والحلم، قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

اللهم أني قد سامحت وعفوت وغفرت عن كل من أساء لي بقصد أو بدون قصد، اللهم حنن عبادك لي وأجعل قلوبهم مسامحة وأبعث في أروحهم عفوك ليعفو عني وعن كل ذنب أو أخطأ أو تقصير بدر مني بقصد أو بدون قصد، اللهم أنك العفو والقادر والمعطي والرازق فارزقنا عفوك وجنتك ورضاك.. ودمتم ودامت عمان بخير.