حكايات شعبية

 

سعيد بن أحمد المعشني

سأل حكيم قومه قائلا: ما الخير الكثير؟ فأجابوه: المال، قال: لا؛ بل الحكمة هي الخير الكثير مبرهنًا على قوله "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خيْرًا كَثِيرًا ۗ..."، وأردف قائلا: جميعنا تحت مشيئة الله فإن الغني من أتاه الله الحكمة وليس المال فإنما المال زينة يزين به الله الإنسان في الدنيا فلا ينفعه في الآخرة وهي دار البقاء، هتفوا الناس وقالوا: سبحانه ما أعقل هذا الرجل! فطمعوا في علمه فسألوه عن رأيه في مقولة "جاور البحر ولا تجاور السلطان".

فقال: بلهجة شديدة الحزم ينهاهم، لا تجاورهم، فإن البحر لا يرجى خيره في العواصف- تماما- كالسلطان الجائر، فإنه هائج عند الغضب وساكن عند الرضا. ومضت السنون حتى اشتد الجدب وانتشر القوم سعيًا للرزق، فقال رجل منهم: أنا سأجاور البحر لكي آكل من خيراته، وآخذ من لؤلؤه ومرجانه وأخوض في عبابه، وقال آخر: أنا سأجاور السلطان سأنقل بيتي إلى جانب قصره ليغدق عليّ من أمواله الكثيرة ويطعمني من موائده الكبيرة.

ترك الرجلان سفوح الجبال والهضاب ونزلا إلى المدينة، فقام الأول ببناء بيته من جريد جوز الهند، فجهزّ عريشه على الساحل بالقرب من أمواج البحر المتلاطمة يكاد القصيف ينتزع أطناب بيته، وفي صبيحة أول يوم نزل البحر خالي الوفاض، إنها المرة الأولى التي رأى فيها البحر! عندئذ اغترف غرفة من الماء بيده وتمضمض وبدأ يبحث عن شيء يصطاد به فرأى شبكة صيد قديمة ونشلها فرحًا وعيّن صخرة أمامه فوقف عليها ورمى الشبكة بقوة، والمفاجأة أنها ارتدت لتلتف حول جسده النحيل فهوى في البحر وصرخ مستنجدا فاجتمع الناس وأنقذوه بعدما رأى الموت بعينه فحملوه إلى بيته، والمصيبة الأكبر كانت دمار بيته الذي وجدوه  تتقاذف أجزاءه  في مد الشط وجزره فوضعوه على الساحل حزيناً يندب حظه ويردد: "واحظاه، وأيم الله لن أجاور البحر أبدًا".

أما الرجل الآخر فشد رحاله في ليل داجٍ، وبدأ يغرز أعمدة خيمته بجانب أسوار قصر السلطان، متطلعا إلى تحقيق ما يصبو إليه، فأنهى نصب الخيمة وبات أول ليلة في أحضان القصر، وظل يتقلب على فراشه حتى غفا قليلاـ فلما بزغ نور الصبح وجد نفسه خلف القضبان، صحى يحدق كالمجنون يتمتم بكلمات في سره، فأجهش بالبكاء يندب حظه والليلة التي قضاها بجوار قصر السلطان، وما لبث ثوانٍ حتى طلبه السجان للتحقيق، فسأله: من أنت، وماذا تريد؟ ألم تعلم أنك نزلت في البقعة المحرمة؟ فأجابه: تاالله ولن أجاور السلطان أبدا.

وبعد مدة من الزمن التقى الرجلان وبدأ يقص كل منهما على الآخر حكايته فذّكر أحدهما الآخر بموعظة الحكيم القائل: "لا تجاور البحر ولا السلطان".

تعليق عبر الفيس بوك