لمن السبق في العالم الجديد؟ الاقتصاد أم السياسة؟

 

 

أنيس بن رضا بن قمر سلطان

 

قبل أسابيع كان العالم يجزم أن المصلحة الاقتصادية تُسيّر من ورائها التوجهات السياسية، فتبتسم دولة لأخرى عند احتياجها لمصدر أو مورد أو منفذ، ويأتي التاريخ بأحداثه وأشخاصه ليكمل هذا المسلسل بما فيه من دراما وحب وحرب، هكذا نمت الدول العظمى، وبقيت الدول النامية تنمو وتنمو، و"بقدرة قادر" بقيت تلك الأخيرة تنمو بعيدا عن العظمة.

ويبدو أننا نشهد اليوم ذاك التاريخ الذي يعيد نفسه؛ حيث إن النزاع الأوروبي حدد التكتلات السياسية بكل دقة، وزاد من حدة الحِرَب والتروس المُطعَّمة بتقنية الفتك الجماعي. واليوم كشف الجميع مدى عمق الإدعاءات الدبلوماسية والإنسانية، رأفة القوي للقوي من بني جلدته، والمواد الغذائية تُخزَّن لأشهر طويلة عند منتِجيها قبل أن تُصدَّر لمن آمن وسلم بالنظام الدولي الذي ضمن له في السابق توزيع تلك الموارد بنظام وتشريع اقتصادي. النظام المالي العالمي القادر على هضم مليارات المعاملات في ثانية واحدة وحفظ السجلات تلقائيا مع كل نَفس إنما يخدم صانعيه. وأصبحت المحرمات الدستورية سابقا، مثل مُصادرة الأملاك والأرصدة من أسهل وأخف الجزائيات.

ودول أخرى تنال نصيب الأسد من التربح في هذه الظروف؛ فهناك من يكسب نفوذا سياسيا وفرصا مغرية لتأمين الطاقة ومن يقوم بالتخطيط الهادئ إذا ما انهار الطلب العالمي. السياسة الآن هي التي تتحكم في الاقتصاد، وإن أتت على منطق المصالح والربحية، لأنَّ هذا المنطق يعتبر ثانويا إن لم يكن ساذجا في الأزمات المصيرية. صناعات عظمى مثل العربات بدأت تجفل كلما اجتمع الساسة. في ظل هذا الزلزال إلى أين تتجه الدول التي لم تُعرف بوزنها الثقيل؟

وفي أغلب الظن أن الكثير منها تعمل الآن في الوقت الضائع إذا ما أرادت مجابهة تدهور اقتصادي وكساد عالمي. وإن استمرت الأزمة الأوكرانية فالاقتصاد الضخم المحيط بتلك المنطقة سوف يتقهقر بنسب عالية ومن شأن ذلك هز اقتصاد دول أخرى مصدرة لشتى السلع والخدمات. والكل مترابط، فهبوط حاد ومتواصل في الطلب على المواد المصنعة يعني هبوط في الطلب على مصادر الطاقة.

"المنطق" قد يقود الدول الصغرى إلى بضع خيارات، البعض قد يقتدي بشركات التقنية العملاقة، ويستمر في تنفيذ استراتيجيته. فإن كانت الاستراتيجيات تقودهم للتنوع في الدخل ومجاراة الجار والتفاني في إيجاد البدائل فقد تنفَذ تلك الدول ببعض الكدمات، بل وقد تكسب.

فقد رأينا جميعا- وبكل حسد- طفرات الشركات التقنية عند مَصاب آخر ألمّ بالعالم قريباً؛ حيث إن جائحة كوفيد كادت أن تودي بحياة العالم بأسره. ولم تأت هذه الطفرات الني ضاعفت ثروات البعض والعالم على حافة الهاوية من فراغ. فمثلا التخطيط الاستراتيجي والتأقلم السريع هما من جعلا من "أمازون" عملاقا استولى على الكوكب الأزرق.

والخيار الثاني... هو الخيار الأول، لا مفر منه وإن جاء متأخراً. ففي أثناء انشغال "العظماء" في تحديد مسيرتهم الاستراتيجية لكل دولة الآن فرصة ثانية للتبصر في جلسات "يوجا" موسعة للعمل بمحاذاة ما يدور في العالم.

لا تحتاج هذه الدول دروساً من الماضي أو حتى وعودا تاريخية، بل عليها خلق مقومات تجعل من دولها شريكا لكل منتصر وقناصا ماهرا للفرص. وبمعنى آخر، هذا هو عصر الاقتصاد السياسي. 

وقد قالها أحد حكماء الدول العظمى الراحلين، "إنَّ عدم التخطيط لليوم الأسود هو أسرع مسار لملاقاته".

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك