المركبة الكونية

 

أحمد الرحبي

نعيشُ في أجسادنا نُمارس الحياة داخلها متحصنين من الفناء؛ فالجسد بالنسبة لنا هو بمثابة البزة التي توفر لنا الإمكانيات الفيسيولوجية لنتمتع بالحياة، فكل عضو في الجسد مصمم للتعامل مع النعم الوافرة التي تهبها لنا الحياة، والتمتع بها، متع من مثل الوعي بالحياة والكينونة فيها والإحساس بكل لحظة بها، مع ميزة الشعور والتفكير، الذي يقودنا إلى الإبداع والإضافة فيها- أي الحياة- مخلفين آثارنا وبصماتنا على سطحها الرملي المتغير المتطاير وسط السديم الأبدي.

لذلك نجدنا حريصين على أجسادنا أشد الحرص، حرصنا على الحياة ذاتها، فالطبيعة برغم أنها وهبتنا هذه البزة الرائعة الدقيقة التصميم والمدهشة في وظائفها والإمكانيات التي تقدمها لنا، إلا أن هذا الجسد يُعد ترفًا جدًا، فهو معرض للتلف في أية لحظة، كما إنه سريع التقادم، فهو بقدر ما يُشكِّل وسيلة للحياة، عرضة لضريبة عيش الحياة والتمتع بها، فنجد هذا الجسد سنة بعد أخرى تتناقص فيه الإمكانيات التي يتمتع بها في التعامل مع الهبات الغنية للحياة، وتخفت قدرته، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يصعب الحياة علينا بدلاً من الاستمتاع بها، مما يجعل الوضع حينها يدخل بنا في دوامة ممضة من اللحظات المنغصة والمعاناة الشديدة.

 لقد أعطتنا الطبيعة مشكورة هذا الجسد لنعيش الحياة في داخله، فهو يعد مركبتنا التي تتيح لنا أن نطل مجرد إطلالة سريعة وخاطفة مُقارنة بعمر الكون السحيق، ومن زاوية ثابتة قياسًا بالامتداد الواسع للكون المترامي الأطراف، إطلالة ربما لن تتاح لنا مرة أخرى، لكن ما تعطيه الطبيعة تعود لتسلبه مرة أخرى، فهي بمزاجها الفوضوي لا يستقر لها قرار أبدًا، فهي دائمًا تؤدي دورها وتقوم بمهماتها في المسرح المفتوح للكون ما بين هدم وبناء، ترفع طوبة جدار هنا، وتهدم طوب جدار هناك، فهندسة الكون قائمة على خاصية الهدم والبناء التي تطبقها الطبيعة في الكون بكل إتقان، بدءًا من أضخم مجرة وصولًا إلى أدق خلية مجهرية. ووسط هذا العنفوان من الهدم والبناء، يكون الإنسان بجسده الترف سريع العطب، يكون أولى الضحايا لهذا القانون الطبيعي قانون "الهدم والبناء" وأشدهم بؤسًا، خاصةً وإنه مسلح بالوعي والشعور، بكل المتغيرات التي تحدث في جسده والتي تحدث من حوله؛ لذلك فإن فرحته بأعطية الطبيعة سرعان ما تتبدد وتتحول هذه الفرحة إلى همٍّ وغمٍّ، عندما تبدأ الإجراءات الحثيثة لسلب هذه الأعطية منه، والتي يحسها ويشعر بها في كل لحظة، وفي كل خلية من خلايا هذا الجسد، الذي يُسلب منه بأسرع من لحظة انبثاقه وتخلقه في الحياة.

لقد جعلت الطبيعة المرض معول الهدم الأول لهذا الجسد، إلى جانب الضعف والوهن الذي يصاب به جسد الإنسان مع توالي السنين، وامتداد العمر به إلى مرحلة الشيخوخة التي يفقد فيها الجسد عند ذلك طاقاته، ويصبح بلا حول ولا قوة، إلا قوة الإيمان بالمصير المحتوم، وهو نهاية عمر الإنسان الفيزيقي، بنهاية جسده عن القيام بدوره كملاذ آمن للحياة وحصن له من الموت، نهاية تحدث من خلال الحياة ذاتها، التي يبدو أنها السمة الأولى والأخيرة لهذا الجسد والميزة الفارقة التي تميزه، مما يعرضه للفناء المحتوم ويختم مسيرته في الحياة، عند تلف هذا الجسد وتعطله عن القيام بدوره في جعل جذوة الحياة وشعلتها مستمرة الاشتعال.

هناك قائمة طويلة لا تحصى من الأمراض والأسقام معرض لها هذا الجسد، منذ اليوم الأول له في الحياة؛ بل قبل ذلك، منذ تخلّقه نطفة في الرحم، أمراض يظل يعاني أعراضها الصعبة، ويُغالب شدتها القاهرة التي تنشب مخالبها في جوارحه، مغالبة شجاعة، ودائمًا ما تتحقق الغلبة الساحقة- برغم قوة المقاومة- لهذه الأمراض والأسقام، على الجسد الضعيف للإنسان. فطوال العصور الماضية- قبل أن تتطور الخدمات الصحية، كما هو معروف الآن؛ حيث يمكن القول إنه أصبح لكل داء دواء- كان الإنسان بجسده الضعيف معرض لفتك الأمراض منذ ولادته وحتى مماته، فتك لا ينجو منه إلا قلة قليلة في كل جيل من الأجيال، ما يشكل حاصل اصطفاء طبيعي وهو ما يدخل ضمن ممارسة الطبيعة وهندستها، في سبيل ترقية النوع، من أجل استمرار الحياة وتقدم عجلة تطورها الدائم إلى الأمام.

لقد صُمم هذا الجسد لعيش الحياة والتمتع بها إلى حين، لكنه لم يُصمم لمقاومة الفناء، المصمم على وَأدِ الجسد منذ اللحظات الأولى لولادة الإنسان، الذي وعى هذه الحقيقة المُرّة، وكان حريصًا كل الحرص، على ألا يكون لقمة سائغة للموت، فتجنب مسببات المرض ما أمكن له ذلك، وأوجد الأدوية لبعض الأمراض التي تهدد حياته، وحرص على أن يبتعد عن مكامن الأخطار، ما لم يكن مضطرًا إلى ذلك، وتجنب كل ما يُهدد الحياة، وحاول أن يستمتع بالحياة بحكمة، وذلك بأن يعيش مباهج الحياة ويتمتع بالأعطيات التي تقدمها له، بتوازنٍ وبلا إسرافٍ يؤدي إلى تعريض جسده للاختلال، فلقد حاول جاهدًا ألا يكون جسده عرضة لاستهلاك الحياة في مباهجها المُغرية، فكان حريصًا على أن يعيش الحياة بجسده ويستمتع بكل ثانية تتيحها هذه الحياة، بدلًا من أن يُقدم هذا الجسد أضحية على مذبحها.

وبالرغم من ذلك فهو بعد حين من الدهر طال أو قصر، فهو راحل رغمًا عنه، بعد أن يُطرد من جوف الحياة ويخرج منها كسمكة لفظها البحر، بعد أن يكون قد تناهشت الأمراض جسده وأضعف التقادم كل الامكانيات التي يتميز بها هذا الجسد، كبزة تمكن صاحبها من البقاء في جوف الحياة يعيش ويستمتع بكل اعطياتها الكريمة طوال سنوات عمره التي يكتب أن يعيشها داخل الحياة قبل أن يقذف خارجها بلا عودة.

الخلاصة لما سبق.. أن عدم إيماننا بالحياة يجعلنا مباشرة في مواجهة نقيضها وهو الموت، فمتى ما أعطينا ظهرنا للحياة نجد في وجهنا يقف الموت متربصًا بنا، فمن الممكن القول أنَّ الحياة هي الواحة التي في أفيائها نأمن شر الموت، وقدوم الموت هو إيذانًا بانتهاء الحكاية، حكايتنا السعيدة في كنف الحياة وفي أفياء هذه الواحة. خلاصة أخيرة لما سبق أعلاه: لكن أن نعيش الحياة بوفرة من الأمل الفسيح، والتمتع بفرصتها الثمينة بكل صحة وعافية، وبكل أمل وفرح وسعادة، يطرد كل هاجس منغص من أذهاننا.