الخطّاب المزروعي والاغتراب في "ذاكرة الكورفيدا"

 

 

نسرين بنت يعقوب عبد الله الحارثية

 

يعاني الإنسان في وقتنا الحالي من الاغتراب بأنواعه، ونجد الاغتراب النفسي قضية متصدرة ضمن قضايا المسكوت عنه في مجتمعنا، ويظهر هذا الاغتراب نتيجة شعور اللاانتماء لشيء محدد، وشعور الفرد بالغربة في وطنه الأصلي.

وقد أبدع الخطاب المزروعي في روايته "ذاكرة الكورفيدا" بمناقشة هذه القضية، مع قرعه على جانب كبير من الترميز والتشويق واختيار النهايات غير المتوقعة، حيث بدأها بانشغال عثمان بشيء مفقود؛ أذنه المقطوعة، ثم استهواء كل من مرزوق وعثمان في جمع الدعاميص ليأكلها الغراب، مع استرجاعهما للذكريات الأليمة التي جعلتهما في هذا الاغتراب النفسي، ثم انتهائها بنهاية غير متوقعة وهي انتهاء حياة مرزوق.

ونجح في تجسيد هذا الاغتراب بشكل لافت في الشخصيات: "مرزوق" الذي يكشف عن ذكريات خلقت منه إنسانًا ذا نفسية مضطربة، و"عثمان" المشهور بالحركة التي اعتاد أن يقوم بها؛ واضعًا يده على بقايا أذنه اليمنى ليخفيها من الناس، و"الغراب" الذي يظهر في أغلب حكايات الرواية، تارةً منقذًا لشخصية البطل من الانهيار النفسي، وتارة أخرى معبرًا عن حياة البطل المليئة بالظلم والضياع.

الرواية في ظل مناقشتها لقضية الاغتراب، لم تغض النظر عن القضايا الأخرى المسكوت عنها، من ذلك قضية ظلم المؤسسات التي تظهر براءتها من الخارج بأن المواطن هو مصلحتها الأساسية، وأنها قاهرة لمظاهر الفساد والظلم، في حين، نجد أن الفساد ذاته ينخرها من الداخل. وسلطت الضوء أيضًا على قضية الخيانة الزوجية، وظهرت عند خيانة أم مرزوق، والتي لم يستطيع مرزوق احتمالها لتؤدي إلى وفاته.

كما ناقشت الرواية قضية حقوق المرأة: وتجسدت في عائشة التي تمثل المرأة العمانية التي استطاعت أن تحقق مراد النساء في أخذ حقوقهن، فهروبها من بيت زوجها منذ يومها الأول لعدم قبولها هذا الزواج الخالي من مشاعر الحب والعاطفة، كما سلط المزروعي ضوءه على قضية العادات والتقاليد حيث نجد سطوة العائلة وتسلطها عند عائشة وعائلتها.

الأمر الذي شدني لإكمالها بكل متعة لغتها الشاعرية؛ فالمزروعي تألق فيها بشكل مُلفت، حيث جمع بين جمالية اللغة ومتعة السرد، وكثف فيها الاستعارات البلاغية والتصورية، فكانت مختلفة عن نمطية الروايات الأخرى التي قرأتها التي تمشي على نمط لغوي وسردي اعتياديين.

 أما فيما يتعلق بالبناء السردي، فأجد أنَّه توفق فيه بشكل كبير، فكما نعلم أن الكاتب يريد من حكايته أن يحولها لقصة فنية، وبما أن الرواية في مجملها عبارة عن ذكريات، استخدم فيها تقنية الاسترجاع ونبش الماضي، فاستخدام ضمير الغائب بكثرة؛ ليعود بنا إلى زمان حدوث الحكايات مهتمًا بذكر التفاصيل الصغيرة التي تزيد من الأحداث واقعية.

أعجبتني الرواية ببساطتها، وأسلوبها السردي المُمتع، كما أظهرت المفهوم الحقيقي للصداقة الصادقة بين مرزوق وعثمان، فكلاهما كان يُواسي الآخر رغم مآسيه وأحزانه، فلم يتخلى أحدهما عن الآخر حتى النهاية.

والأمر الذي لم يرق لي الرمزية التي تغلبت فيها، فلم يصرح الكاتب عن العلاقة الحقيقية التي تربط الغراب ببطل الشخصية، ولم يصرح عن رمزية جمع كل من مرزوق وعثمان للدعاميص، ولا رمزية الدود الذي تجمع على أذن عثمان، والتي كانت تسيطر على أحلامه، كذلك هناك ومضات سريعة حول أحداث معينة دون الشروع في تفصيلها.

الرواية عظيمة في مضمونها، أنيقة في لغتها، ومبدعة في سردها، أنصح بقراءتها بدون تردد؛ خفيفة على اللسان، عميقة في القلب.

كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

تعليق عبر الفيس بوك