سيمفونية حزينة من الطفولة البعيدة

 

عبدالله الفارسي

الطفولة مرحلة شفيفة.. ولذيذة.. رهيفة.. إنها من أرهف وألطف مراحل العمر على الإطلاق، إنها مرحلة سماوية.. ملائكية، رغم كل ما يُخالطها من شيطنات وشقاوات كبيرة، إنِّها مرحلة باسمة رغم كل المآسي والدموع، إنها مرحلة لامعة، صقيلة، صافية رغم كل الصدأ، والقذى، والصدوع، والشقوق.. إنها مرحلة التراب والزجاج والحصى، إنها مرحلة الهدى والعذاب والعصى!

كل الأطفال ملائكة بالفطرة حتى يكبروا، فيتحولون إلى كائنات تعيسة، ويسقطون تدريجيًا في الطين، ليتبدلوا في النهاية إلى مخلوقات أرضية خبيثة! هذا هو قدرهم، أو ربما هو مصيرهم الطبيعي! إنهم يتحولون كما تتحول الطبيعة، ويتبدلون كما تتبدل الكائنات، إنهم يتطورون كما تتطور الحياة، إنهم يتشكلون كما تتشكل أزهار الربيع، فيكونوا صالحين أو طالحين، وغالبًا يصبحون أبالسة وشياطين!

لستُ ملاكًا، ولم أكن يومًا إبليسًا أو شيطانًا، وإنما مارستُ الشقاوة كواجب طفولي، وكحتمية من حتميات النمو والتطور والبقاء والاستمترار والتسلق العمري! لقد عشت مرحلة الغباء والحمق اللامحدود، كما استمتعت بفترة الذكاء والدهاء اللامتناهي، لقد ضربتني تلك النفحة المسكونة بالأرواح الشريرة، ورشتني نفحة من نفحات الأنفس الشفافة السرمدية الطاهرة.

قالت لي أمي يومًا: "عباد.. أنت شقي.. وأخشى أن يلاحقك الشقاء أينما تضع قدميك"!! نعم يا أمي.. أنا شقيٌ لطيف، تعيس رهيف، أهوى الشقاء، وأتلذذ بالعصى والعصيان، وأعشق الأوجاع والأنواء وأمتطي الحصى والحرمان! الشقاء مخلوقٌ أخرق خلق بجانب البشر، يلازمهم في سيرتهم السوداء، وتاريخهم الملطخ بالهزيمة والألم والفقد والخسران، إنه لصيقهم في المجالس، ورفيقهم في الأزقة والدروب الموحلة، إنه شريكهم في الأسِرّة، إنه نارهم الدفيئة في الليالي الباردة، إنه هم، وإنهم هو، مهما تلونت البشرات، وتشكلت السحنات، وتنوعت الجلود، وتباينت الدماء!

أماه: "إذا كان الشقاء لعنة كبيرة؛ فلتعلم السماء بأنني مؤمن صادق الإيمان باللعنة! وإذا كان الحزن أحد آلهة العواصف والغبار، فأنا عاصفة محملة بالثلج والدموع. وإذا كانت التعاسة شتاءً قارصًا مشحونًا بالخوف والرعشة، فأنا قصة غرام مسكونة بالمرض، مرهونة للموت، مشتعلة بالظلام"!

لا أعلم حقيقة رغم اطَّلاعي على جُلَّ فلسفات الإنسان وشطحاته وأوهاومه وخزعبلاته العظيمة لتفسير الكون عبر العصور، رغم تتبع كل خطواته الغبية الحمقاء في هذا الكون، رغم غروره اللامحدود وغباؤه اللامعقول، لِم يتألم الأطفال؟ لم يبكون؟ لم يجوع الصغار؟ لم يمرضون؟ لم يُقتلون؟ ولم يموتون؟! لماذا تختفي البراعم والفراشات والزهور؟ لم ينتكس الخير وينكسر النور؟! ولِماذا يعربد الظلام وتتفاقم الشرور؟ ولِم يرتفع الكِبر ويسمو الغرور ويشمخ الطغيان ويلمع الجبروت؟!

من المؤكد أن هناك شعرة دقيقة فاصلة بين العبقرية والجنون، وأنا أؤكد أن هناك شعرة أخرى دقيقة للغاية تفصل بين الإيمان والجحود! أن ترى طفلا يحتضر يتعذب ويتألم، يعني أن تعيش بين ثنايا هزة كاسحة في نواميس الكون وقوانينه. أن ترى أُمًّا تصرخ في المخاض؛ لتخلق الحياة، وتشهق شهقتها الأخيرة لتغادر الكون، فهذا جلد للعقل، وقتل للمنطق، وتسفيه لكل مراحل الذكاء.

طفلٌ يبكي حرقةً وألماً يعني أنك تتجرَّع رجفة عنيفة من قانون الحياة المعقد ونظامها المعوج الذي يفترض بديهيًا أن يكون صلبًا.. صلدًا.. وقويًا. أنا لم أعانِ في طفولتي كثيرًا، لكنني أملك قلبًا ممغنطًا، يلتقط الألم، ويجتذب العذابات والأنين والمآسي، كلما اقترب منها، أو عبر من حولها أو مضى من خلالها.

لذا.. رويدًا رويدًا ومع الوقت أصبحتُ ألمًا متحركًا ومخلوقًا بائسًا ملتاعًا، مغردًا بالوجع، مكتنزًا بالعذاب، ومصفقًا بالسهاد والسهر، وراقصًا مع الأنين، مسافرًا مرافقًا مع الوخز!

الحلوى.. والآيس كريم.. والمثلجات.. والبوظات.. والألعاب البلاستيكية المزركشة والمتحركة، والتي لم تكن ضمن إمكانيات الحصول عليها بسهولة خلال الحقبة التي عشناها، وإنما كان يحصل عليها "أولي الحظوة من الأطفال"، كنتُ بعيدًا عنها تمامًا أو بمعنى أوضح كنت لا أستسيغها، كنت أستمتع مع أقراني بلعق الملح العالق على الصخور، نلتهم القواقع النائمة في الرمال، ونطارد سرطانات البحر السمينة، ونربي الكلاب الصغيرة، ثم ننام مفتوحي الأفواه كسلاحف ميتة على شاطئ قريتنا المترامي.

ومع ذلك أستطيع أن أقول إنها كانت طفولة مُمتعة حسب المقاييس التي رسمتها الأقدار، وبناءً على المخطط العجيب النازل من قبة السماء إلى سطح الأرض، إنها قسمة لا مجال لرفضها أو كنسها! إنها طفولة جميلة.. عذبة.. مُعذبة.. ومُتعذبة! كان لي صديق، صديق طفولتي، ولا أدري لما اخترت هذا الطفل صديقًا لي، لا أدري لماذا اختياراتي غالبا مؤلمة خاطئة مزعجة؟! هل لأنَّ علاقتي بالألم علاقة حتمية؟ أم لأنني كائن يجتذبه الوجع ويعشقه العذاب؟!

كان طفلا كأي طفل من أطفال الدنيا، ولكنه لم يكن يملك جناحين يحلق بهما في أرجاء الحارات، ويرفرف بهما في الأزقة وبين البيوت، كان لا يملك جناحين أبيضين ككل ملائكة الدنيا، كان مهيض الجناح.. منزوع الخف.. كان مشلولًا.. مغروسًا في السرير، مثبتًا في الأرض كمسمار صدئ.. نحيل... وحاد!

نصفه الأعلى لوحة فنية بارعة؛ لدرجة أنني اشتعلت حقدًا منه قبل نمو غريزة الحقد القادمة من ظلمة الدنيا في قلبي وحول سياج فؤادي، فتمنيت أن أملك تلك اللوحة الفاتنة، وأحظى بذاك الوجه الباهر الآسر. أما نصفه السفلي فكان مغلقًا.. معطلًا.. موقوفًا عن العمل إلى أجل غير مسمى!

لم يحتمل قلبي كل ذاك الكم الصاخب من الضجيج الذي أحدثه السؤال: لماذا؟

عجزت حقيقةً عن إدراك تلك الصورة النشاز، رغم شروق السؤال قبل أن يتنفس فجر الحياة في صدري، ورغم اجتهادي الهائل، ولهاثي الشديد لإدراك حقيقة تلك اللوحة، وكشف حقيقة ألوانها المزعجة وجوانبها المبهمة! فقد عشت القسط الأوفر من طفولتي بجانب تلك الصورة.. أراعيها.. وأهدهدها.. وأحمل عنها كل سخطها.. ونقمتها.. وكفرها.. ولعنتها البريئة! ربما لم يكن ذلك الصديق المُقعد يحمل همَّه كما أحمله أنا.. فقد كان طفلًا مدللًا.. منعمًا.. مباركًا.. ملبى الطلبات.. لقد كان أميرًا صغيرًا من أمراء مملكة الأرض القديمة.

لقد كان الجميع خدمًا له وكنت أنا أمير الخدم، وزعيم الغلمان والجواري، لقد حملتُ عنه جانبه المظلم من الوعي والإدراك، وامتصصتُ منه ضجيج التساؤلات الفلسفية الكبرى، ولعقتُ نيابة عنه مرارة الواقع وجحود الكون!

فعاش هو حياة رغيدة.. هنيئة عابقة بالمرح.. والفرح.. والبهجة.. وعشت أنا بجانبه مضطربا بين مرارة السؤال.. ولسعات الإجابات المضللة.. المؤلمة!

وذات صباح صاخب بأصوات النوارس الجائعة الجاثمة على مقربة من دُورنا، نهضت مشتعلًا بالشوق والعناق لذاك الملاك الكسيح.. فخرجت مهرولاً دون وعي.. ودون أن أتحرر من رائحة ولعاب النوم المقرفة.. وقبل التخلص من نكهة الفراش الدبغة! اقتربت من باب بيتهم.. ففوجئت بحركة غير عادية بجانب منزلهم.. وتنامى إلى سمعي بكاءٌ حادٌ لاسعٌ، يقطع نياط القلب ويمزق الأفئدة ويجلد الصدور ويحرق الأوردة!

كان الباب مفتوحًا على مصراعيه، وكان على جوانب المنزل رجال بثياب بيض شديدة البياض جالسين كأنهم سعاة بريد ينتظرون استلام "بريدهم الأرضي"؛ ليصعدوا به إلى ملكوتهم الأعلى. جلستُ أمام الباب أنظر من بعيد إلى الجسد المسجى على لوح خشبي أراه للمرة الأولى.. والذي ما زالت تتقاطر من تحته وجنباته حبيبات الماء وكأنها قطع من الفضة اللامعة المغسولة بماء الشمس.

نهرني أحد الرجال: أبتعد يا ولد! فأبتعدت زاحفًا على الجدار كسحلية مريضة.

عندما نكون في غمرة الاحتفاء بالحياة، نكتشف أنَّ الحياة تقرع طبول الحرب ضدنا، إنها تبصق في وجوهنا، وتمنحنا اللعنة بكل جمالياتها وشغفها وسوادها وظلامها ووجعها!

انتهت حكاية صديقي بسرعة غريبة.. لم يكمل حتى عامه العاشر.. دفن في مقابر الأموات.. وظل قلبي قبرا لكل ضحكاته.. وجماله.. وجمالياته.. وأمنياته... وخططه.. وأحلامه.

مات صديقي بسرعة مذهلة.. كعصفور غريب تائه.. وحلَّق إلى العالم الآخر.. عالم لا يمكن أن نفك شفرته أو نحصل على أرقامه السرية!

ذهب صديقي.. وزحف في باطن الأرض، وظل السؤال الأزلي يزحف في أعماقي، ويمخر عباب قلبي حتى اللحظة.. لماذا؟

مات صديقي، وحملوه في قطعة خشبية رخيصة كقطعة فلين فارغة مجوفة. لقد لحقت بهم، أتتبع خطواتهم، وتكبيراتهم وألتقط قراع نعلهم، كنت أتشمَّم رائحة الكافور الفوار المنبعث من ذلك النعش الرقيق الطري المُشيَّع أمامي، وكنتُ أسير خلفهم مُشيّعا السؤال الصادم: لماذا جئت إلى الحياة من الأساس أيها الطفل الجميل؟!