بين الطبيب والطبيبة.. فوارق شتى

 

عبدالله الفارسي

"خدمات الرعاية الصحية الأولية لدينا تعتبر من أجود الخدمات الطبية في الشرق الأوسط". رئيس اللجنة الصحية بمجلس الشورى.

****

قبل أشهر تورطت واشتريت علبة لون لصبغ الشعر، ورغم حذري الشديد في هذه الأمور وحرصي على شراء النوعية الممتازة والخالية من الأمونيا المسببة للحساسية، إلّا أنني للأسف وقعت في المحظور!

قررت صبغ لحيتي فقط والتي بدأ يغزوها البياض، حقيقة لا أعلم ما الذي دعاني إلى فعل ذلك رغم عدم اكتراثي بالشعر الأبيض الهاجم ولا حتى بالعمر الراكض الطائر. غالبًا لا يهمني كثيرًا اللون الأبيض، ولا يهمني كم سأعيش، ولا التفت إلى اقتحام الشيب شعر لحيتي وهجومه على رأسي. ولكن استطاع إبليسي أن يضحك عليَّ وقال لي "قليلا من السواد على ذقنك قد يرفع من جمالك ويشعل نشاطك ويلهب حماسك ويفتح شهيتك للحياة"، وفعلا استطاع إقناعي بذلك.

لكن هذا ليس المقصد من مقالي.

المهم أني صبغت لحيتي وأشعرني اللون الأسود بالزهو والشباب واقتحمني النشاط الحماس، ولكن للأسف لم يطل ذلك الشعور فقد بدأت الحكة تدغدغني وتعبث بذقني. أصابتني حساسية سريعة في ذقني وبدأت المنطقة السفلى من وجهي تلتهب وتنتفخ. فذهبت أركض إلى المستشفى رغم علمي بحقيقة المستشفى وواقعه المرير، إلّا أنني ارتكبت ذات الحماقة التي ارتكبها دائمًا، وذهبت إليه بقدمي. دخلت أولًا على طبيب عام فنظر إليّ نظرة سريعة وكتب لي مرهمًا وحبوبًا ضد الحساسية. قلت له: ألا أحتاج إلى تحويل لطبيب الجلدية لعله أدرى بالجلد وحساسيته؟ فقال لي: لا لا. حالتك بسيطة وشائعة. فخرجت فرحًا مسرورًا بمرهمي وحبوبي وحالتي الشائعة. وفي المنزل دهنت موضع الالتهاب وتناولت حبة واحدة من تلك الحبوب التي وصفها لي الطبيب العام المُوقر، لكني لم أنم في ليلتي تلك من حساسية الهرش والحكة. فظللت انتظر الصباح كحارس أمن مريض ينتظر نهاية نوبته وحضور زميله ليمسك الحراسة بدلا عنه. وطوال الليل وذقني يولمني وتنتابني رغبة شديدة وعنيفة للهرش والحكة بسبب شدة الحساسية ولكنني تحكمت في زمام أصابعي وسيطرت عليها حتى لا أقوم بنتف شعر لحيتي وتمزيق جلدي.

تأخرت الشمس في الشروق في ذلك الصباح وكأنها تتعمد ذلك فصرخت عليها: هيا أرجوك أشرقي أيتها الشمس الحبيبة، فأشرقت الشمس وسحبت جثتي ولحيتي إلى المستشفى الحكومي المُوقر.

طلبت تحويل عاجل إلى عيادة الجلد فحولوني بصعوبة. جلست في العيادة الجلدية المختصة بأمراض الجلد منتظرًا الطبيب الموقر. دخلت على الطبيب المختص بأمراض الجلد وأنا معبأ بالفخر والاعتزاز بوجود قسم اختصاصي بالمستشفى وبه أكثر من طبيب. نظر إليّ الطبيب نظرة سريعة أسرع من نظرة الطبيب العام، ولم يسألني كيف حدث وكم ومتى؟ ولم يستعن بأي شيء من أدواته ليفحصني ويرى طبيعة وشكل الالتهاب ولونه وحجمه. فأخبرته أنَّ زميله كتب لي المرهم الفلاني، فقال لي توقف عن استخدامه وسأكتب لك مرهمين آخرين أفضل من المرهم السابق. فأبهجتني كلماته وأسعدتني ثقته ونبرة صوته، ركبت سيارتي مبتهجًا مسرورًا بمراهمي وخرجت من المستشفى لممارسة تعاستي. وفي البيت غسلت يدي جيدًا وأحضرت المرهمين فسكبت من كل منهما جزءًا يسيرًا وبدأت في مزجهما بخفة ورشاقة. ووضعت المرهم على ذقني ودهنت منطقة الالتهاب وتركته طوال الظهيرة حتى صلاة العصر. ولم أشعر بأيّ تحسن في موضع الالتهاب ولم ينخفض انتفاخ الذقن ولا معدل التحسس، فقلت لنفسي لعل الجرعة الثانية ستكون هي الشافية.

جاء الليل وأظلم الكون وهدأت الكائنات ونامت البهائم والطيور والساحرات، فأحضرت مراهمي وسكبت من كل منهما جزءًا يسيرًا ومزجتهما مزجًا لطيفًا رقيقًا، ودهنت موضع الالتهاب. لم أشعر طوال الليل بأي تحسن في ذقني؛ بل زادت أعراض الحكة وتشنج فكي السفلي بالكامل. فتحت التلفاز وجلست انتظر الصبح حتى تنفس.

ذهبت إلى مدرستي وأنا مكمم الوجه لم أستطع أن أري الآخرين ذقني المنفتح الملتهب، فكانت الكمامة منقذًا لي من التطفل والتعاطف والنصائح والتشدقات الطبية في ذلك الصباح.

وفي منتصف النهار خرجت من المدرسة وتوجهت إلى إحدى العيادات الخاصة المعروفة في المدينة. وفتحت زيارة ودخلت على طبيبة هندية لا يتجاوز عمرها الخامسة والثلاثين. وعرضت عليها ذقني الملتهب ووجهي المُنتفخ فأخذت تتفحص موضع الورم وطبيعة الالتهاب وأحضرت كشافاً ومرآة مقربة لتتأكد من طبيعة الالتهاب ونوعه، ثم سألتني عن كمية الصبغ الذي وضعته وكم مقدار الوقت الذي تركته قبل غسله، ثم قالت لي: نصيحة أحفظها إلى الأبد لا تستخدم أي لون أو أصباغ لشعرك إطلاقًا فكل الأصباغ كيمائية وجلدك يرفضها تمامًا فجلدك حساس جدًا تجاه أي مادة كيمائية. فقلت لها: يا إلهي. جلدي حساس وقلبي حساس، ما أتعسني!!

فضحكت الطبيبة ضحكة جميلة عذبة فأضفت ضحكتها شيئًا من المرح على صباحي التعيس.

وصفت لي الطبيبة مرهمين مختلفين تمامًا عن تلكم المراهم التي وصفها لي الطبيب العظيم المتخصص في الأمراض الجلدية بالمستشفى التابع والخاضع لوزارة الصحة الموقرة وطلبت مني استخدامهما لثلاثة أيام فقط، وقالت لي إذا لم ينخفض الالتهاب ويختفي الورم خلال يومين فيجب الرجوع إليها مباشرة. والحمد لله استخدمت المرهمين مرتين فقط في ظهيرة ذلك اليوم وفي المساء قبل نومي ونهضت في اليوم التالي مُعافى وقد اختفى جزء كبير من الورم وزال التشنج والالتهاب من النصف السفلي من وجهي.

أنا هنا لا أتحدث عن ضعف الخدمات الصحية معنا؛ لأن هناك أمور أكثر ضعفًا وكارثية تحدث في القطاع الصحي، والكثير منَّا إمّا عايشها أو قرأها أو سمعها، وتعبت الأقلام والأصابع من تسطيرها.

الموقف الذي حدث معي يُبيّن الفرق الشاسع بين طبيب يحمل إحساسًا طبيًا ووازعًا داخليًا ويمتلك مهارة طبية وبين طبيب لا يملك إحساسًا طبيًا ولا يمتلك المهارة الطبية. بل الغريب في الأمر أنني سألت عن راتب الطبيبة الهندية الماهرة المخلصة فقالوا لي إنها تقبض 500 ريال في الشهر، بينما ذلك الطبيب الاختصاصي في المستشفى الحكومي راتبه يتجاوز الألفي ريال، وشتان بين الراتبين!

حقيقة نتمنى له الزيادة والارتفاع، لكن نرجو أن يصاحب تلك الزيادة المهارة والإخلاص، وأن يرافق ذلك الارتفاع الحرص والحب والتفاني والإتقان.

هذا لا يعني مطلقًا التعميم في القصور والفتور، فهناك أطباء في مستشفياتنا غاية في دماثة الخلق ويقظة الضمير وفي المهارة العملية والعلمية تجمعنا بهم الصدفة على فترات متباعدة ونسمع عن بعضهم أخبارا مبهجة ومفرحة.

هنا نتيجتان استخلصتهما من تجربتي هذه؛ الأولى: أن الطبيب في العيادة الخاصة غالبًا ما يُقابلك بأدب واحترام واكتراث، ويلتفت إليك ويسألك عدة أسئلة حول ما تعانيه، ويمد يده ويأخذ مرآة مكبرة ومصباحًا ويفحص منطقة الالتهاب أو مكان الألم. فهذا التهاب في الجلد، والالتهابات أنواع وأشكال مثل الأطباء والطيور والزهور. بينما الطبيب الحكومي الموقر التابع لوزارة الصحة الموقرة لم يتحرك من مقعده ولم يكشف لي شيئًا من مهاراته العظيمة ولم يقل لي شيئًا من أقواله المأثورة.

الثانية: المراهم التي صرفها لي الطبيب الحكومي الموقر؛ نوعان: الأول صناعة مصرية رديئة، والثاني صناعة عُمانية أكثر رداءة، وسعر الأول ريالا ونصف الريال، وسعر الثاني ريالا و300 بيسة. بينما سعر المرهمين اللذين صرفتهما لي الطبيبة في العيادة الخاصة؛ الأول: صناعة ألمانية وقيمته ريالين فقط، والثاني صناعة إيرلندية وقيمته 4 ريالات ونصف الريال، فأسعار الأدوية متقاربة جدًا. هل فهمتم قصدي؟!

المقصد أننا بحاجة إلى شيئيين رئيسيين في قطاعنا الصحي، ونحتاج إلى أطباء محترمين قبل أن يكونوا ماهرين، أطباء يعرفون كيف يتعاملون مع المرض ومع المريض، وأيضا نحتاج إلى أدوية جيدة تستورد من دول متقدمة طبيًا تتقن صناعة الأدوية وتتميز في جودة العقاقير.

أما عن القصيدة التي نسمعها دائمًا وهي دعم شركات الأدوية العمانية بمنتجاتها الضعيفة، فأقول إما أن نسمح بإنشاء مصانع أدوية بمعايير شبيهة تمامًا بالمعايير الأوروبية ومطابقة لمواصفاتها العالمية أو أن نُقفل تلك المصانع ونحوّلها مطاحن دقيق ونتوقف عن صناعة أدوية ضعيفة لا جدوى منها ونملأ بها صيدلياتنا ومستشفياتنا وقد تتسبب في زيادة أمراض الناس وأوجاعهم.

وأودُ هنا التذكير بما أكد عليه جلالة سلطان البلاد- حفظه الله- أكد في اجتماعه الأخير قبل أسابيع مع المشايخ وأعيان الولايات بأن الصحة أولوية قصوى، وأن الرعاية الصحية هي ركيزة من ركائز النهضة العمانية، وهي غاية في حد ذاتها؛ لأجل إعداد جيل صحيح وسليم ومعافى وهي من أهم غايات رؤية "عُمان 2040". فلا يمكن أن ننهض ونتقدم خطوة إلى الأمام في أي مجال ونحن نبخل عن تقديم خدمة طبية وعلاجية محترمة للناس، نبخل عن استيراد أدوية ذات جودة لهم والتي لا يتجاوز الفارق في السعر بينها وبين الأدوية الرديئة سوى مبلغ تافه وزهيد.

انظر حولك الآن، الجميع يهرب إلى العيادات الخاصة، الفقراء قبل الأغنياء لأنهم يبحثون عن اهتمام ورعاية وتشخيص سليم وصحيح وعلاج ناجع وجيد. الجميع يهرب من أدوية المستشفيات الرديئة السيئة والأغلبية تهرب من المعاملة الطبية السيئة.

لذا نرجو من وزارة الصحة الموقرة متابعة أطبائها وإعطائهم دورات تخصصية مكثفة في مجالات تخصصهم ودورات نفسية واجتماعية متكررة في كيفية التعامل مع المرضى ومع الأمراض، وأيضا نتمنى من وزارة الصحة الموقرة مراجعة عقود توريد الأدوية وفرز الغث من السمين منها وإيقاف التعاقد مع شركات الأدوية الرديئة والبحث عن الأدوية الأفضل والأجود عالميًا.

النداء الأخير لوزارة الصحة الموقرة.. نريد ونرغب ونتمنى أن تتمتع أجيالنا الحالية المنهكة والأجيال القادمة بخدمة صحية رفيعة لأجل صحة جيدة طويلة الأمد حتى يتمكنوا من مقاومة هذا الواقع الحياتي والصمود في وجه هذا الحاضر المعيشي.