المثقفون العرب والمأساة الأوكرانية

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

 

ما رؤية المثقفين العرب للغزو الروسي لأوكرانيا؟ هذا سؤال مطروح عبر الفضاء الثقافي العربي الممتد من المحيط إلى الخليج.

في البداية، لاتوجد رؤية ثقافية واحدة لدى المثقف العربي، عضويًا أو نخبويًا أو شعبويًا، فالراصد للفضاء الثقافي العربي يجد رؤى ثقافية متعددة تختلف باختلاف المشارب السياسية والأيدلوجية للمثقفين العرب، هذا من ناحية، كما إن هذا الاختلاف محكوم بتوجهات السلطة السياسية التي يعيش المثقف في كنفها تجاه هذا الغزو.

عودة الصراع الأممي في أوكرانيا كشفت مواقف للمثقفين شبيهة بمواقفهم من أحداث سبتمبر 2001 تصنف كالآتي:

أولًا: الناقمون على أمريكا وحلفائها الغربيين؛ حيث وجدوها مناسبة لإنعاش الذاكرة العربية بما سموه "جرائم أمريكا"، ونشطوا في نشر قوائم للفظائع الأمريكية في المنطقة بدءًا بدعمها المطلق للجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مرورًا بغزوها للعراق وتفكيكها الجيش العراقي، وصولًا إلى حروبها في أفغانستان. ومن هذا المنطلق نتفهم البيان الذي أصدره عدد من مثقفي مصر يدين سياسات الحصار والعقوبات الغربية ضد روسيا، ويقول إنها تعيد إلى أذهان العالم أجواء وصراعات ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتهدم كل أسس الاتفاقيات والمنظمات وسياسات وقيم الحريات الاقتصادية التي اتفق العالم عليها عام 1944. وأضاف آخرون مستنكرون حملة أمريكا لحشد الرفض للتدخل الروسي، كما لو كانت أغلب دول الغرب وعلى رأسها أمريكا لم تمارس عنفاً أشد ومُعاملة أسوأ خلال جميع مراحل الاستعمار الرجل الأبيض لثروات وشعوب العالم .

وبدلًا من أن يدين البيان الغزو الروسي يستطرد ليتهم النظام الرأسمالي بإشعال نيران الحروب مخرجاً لأزماته الدورية.

ثانيًا: جماعة التبرير (ولكن)، وهم قطاع كبير من المثقفين الذين وإن أعلنوا رفضهم الحرب أسلوبًا لحل الخلافات الدولية، إلا أنهم تبنوا مبررات ومخاوف روسيا الأمنية من تمدد الناتو على حدودها، وانتقدوا أوكرانيا والغرب رفضهم الاعتراف بمشروعية مخاوف روسيا الأمنية .

ثالثًا: الأيدلوجيون العقائديون، وهم الذين انتهزوا فرصة الحرب لكشف ما سُّموه "الوجه العنصري" القبيح للغرب الذي استقبل لاجئي أوكرانيا ذوي الأعين الزرق بترحاب يختلف عن استقبالهم لاجئي الشرق الأوسط .وكل ماهمهم في هذه المأساة تصيد ما سموه "تعرية الغرب الاستعماري" الذي برع في "ثقافة الكذب"  وخان الديمقراطية التي تباهى بها وحمل لواء نشرها في بلدان الجنوب والشرق.

رابعًا: المستبشرون بولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، والذين وجدوا في هذا الصراع ما يبشر بانهيار النظام العالمي الأحادي، فأيدوا الغزو الروسي بوصفه "معركة تاريخية" تنهي سياسات "الهيمنة الأمريكية" ليصبح العالم أكثر تعددية وأقل عسكرة .

خامسًا: المحايدون: جماعة "لا ناقة لنا ولا جمل"، والذين رأوا في الغزو حرباً بين معسكر يريد الانفراد بالعالم، ومعسكر يريد أن يستعيد مكانه كقوة عظمى، وعلى دولنا الالتزام بالحياد، وإقامة علاقات متوازنة مع المعسكرين .

سادسًا: الإيجابيون: وهم جمهرة المثقفين العرب خاصة الخليجيين الذين تعاطفوا مع مأساة الشعب الأوكراني واستنكروا الغزو الروسي ومبرراته وقالوا: لا للحروب ومبرراتها  .

نقد وتقييم.. كشفت الأزمة الأوكرانية عمق تجذر "الأيديولوجية" في عقلية قطاع من المثقفين العرب الذين أيدوا الغزو أو برروه، هؤلاء لا يزالون أسرى الميراث الاستعماري القديم، لا يستطيعون التحرر من قبضته، يتحدثون عن دول الغرب التي تكيل بمكيالين مع الآخرين وتناسوا أن دولنا  تكيل  بعشرات المكاييل مع مواطنيها، أي منطق أعوج يبرر لروسيا ابتلاعها جارتها بحجة أن أمريكا والغرب فعلوا بنا الأفاعيل؟! ما ذنب الشعب الأوكراني إذا أجرم الغرب وأمريكا في حقنا؟!

أما القياس على غزو أمريكا للعراق وأفغانستان، فقياس فاسد، كان في العراق حاكم طاغية أذاق شعبه مر العذاب، كان يستصرخ العالم لتخليصه، كما لم يأمن جيرانه بوائقه فكان لا بُد من إسقاطه، أما أفغانستان فقد اتخذتها القاعدة ملاذًا آمناً فكان ضروريًا تخليص العالم من شرورها.

عليك كمثقف حقيقي أن تستنكر العدوان أبدًا عندك أو عند غيرك، لا تدافع عنه مهما كانت المبررات، عليك أن تستنكر الظلم الروسي، كما تستنكر الظلم الأمريكي والغربي، لن تكون مثقفا سويًا إذا كلت بمكيالين ولا تستحق صفة "مُثقف" إذا بررت الظلم والعدوان!

** كاتب قطري