بيوت واسعة وصدور ضيقة

 

عبدالله الفارسي

قبل شهرين قرأت خبرًا مُدهشًا، سيدة نمساوية مُوقرة تعمل عمدةً لثاني أكبر مدينة في النمسا، اضطرت أن تقدم استقالتها لأنها- كما صرحت- لم تستطع تحقيق مطالب النَّاس التي وعدت بتحقيقها لهم، وأنها فشلت في مهمتها!

فقدمت استقالتها وعملث سائقة لسيارة نقل القمامة في نفس المدينة، وحين سُئلت عن مدى ارتياحها لقرارها هذا، قالت بكل شجاعة: "أظن أنني حاليًا في المكان والوظيفة المناسبة على الأقل أقوم بعملي على أكمل وجه". يا سلام! إنِّهم يعلموننا الأدب واحترام الذات والاعتراف بالحقيقة.

السؤال: يا تُرى كم من مسؤول لدينا تناسبه وظيفة سائق سيارة نقل القمامة؟

قبل يومين اتصل بي صديق لأتناول وجبة الغداء معه، ونادرًا جدًا ما يتصل بي أحد لأتناول معه كوب شاي، فما بالكم بوجبة غداء أو جلسة عشاء؟! حقيقة ثمّنتُ دعوته، وكبر حجمه في قلبي، ونافس أسماء كثيرة؛ بل زحزح البعض إلى خارج أسوار القلب، واحتل مكانهم. شيء بسيط جدًا قد يحدث فرقًا كبيرًا في العلاقات.. دعوة لتناول كوب من الشاي مع الفطائر أو الكعك، جلسة لتناول الحلوى مع القهوة، وجبة فطور، ما المانع؟! ليس هناك مشكلة حين تتصل بصديقك أو جارك أو أحد معارفك، وتطلب منه الحضور في الصباح لتناول الفطور مع بعض، جلسة صباحية نقية وجميلة في أيام الإجازات العديدة والمملة.

ليس شرطًا أن تذبح عجلًا، أو تنحر جملًا.. صديقي اليوم قدَّم لي أرزا أبيض مع العوال المقلوب بالبصل والطماطم، وجبة لطالما عشقتها، وجبة أفضل بعشرات المرات من اللحم الطازج الرديء الذي يُباع في أسواقنا والدجاج المسمن بالسموم والكيماويات، وجبة خفيفة، لذيذة، ولا أظن أنه يختلف اثنان من مجتمعنا في روعتها، ولذتها.

إذن.. القضية ليست قضية حجم الوجبة ونوعها، ولا طول السفرة وعرضها، القضية في المبادرة ذاتها، حين تبادر لدعوة أخ أو صديق أو جار، ولو كل شهر مرة واحدة، أو كل شهرين مرة، تدعوه إلى بيتك، وتجلسا معًا.

يقول لي صديقي اليوم إن مجلسه لم يدخله أحد منذ العيد الماضي، يفتحه كل أسبوعين للتنظيف فقط، ثم يغلقه. لا أحد يقرع بابك أبدًا؟!

أعتقد أننا- جميعًا- مجالسنا لم تُفتح منذ العيد الماضي، لم يزُرنا ضيف، ولم نستقبل قريبًا ولا حبيبًا ولا غريبًا، ولم تدخل البركة في بيوتنا منذ شهور.

يُعرف عن العرب عادة جميلة، وهي الفرح بالضيف، والابتهاج بدخوله لمنازلهم، حتى لقد عرف عن كثير منهم أنه إذا حان وقت الغداء، وقف خارج البيت ينتظر أي عابر سبيل، فيدعوه ليشاركه الغداء، ويقاسمه الطعام.. إنها بركة لأهل البيت، ومغفرة لذنوبهم، وتطهير لبيوتهم، وشفاء لأمراضهم.

هكذا كان العرب الأوائل يحرصون على العثور على الضيف، رغم فقرهم، وشظف عيشهم. أخبرني أحد أقاربي الطاعنين في السن قصة قديمة عن رجل كريم وفاضل من مدينتنا، كان رجلًا عاديًا، لا يملك ثروة، ولا يقتني ذهبًا ولا قصرًا، كان بسيط الحال، لكنه سخي النفس، كريم الطباع. يقول: كان يذهب في كل جمعة إلى المسجد، ويرصد الغرباء ويتصيدهم، ويحضرهم معه لتناول الغداء في بيته، أحيانًا يظفر بواحد، وأحيانًا باثنين، واحيانًا أخرى يحضر معه خمسة رجال أو أكثر، وإذا لم يعثر على أحد عاد إلى بيته كئيبًا حزينًا.

المهم، كان لا يرجع إلى بيته بدون غريب، يتبارك به في بيته كما كان يقول. وظل محافظًا على هذه العادة الكريمة الرائعة حتى وافته المنية. مثل هؤلاء الرجال، كانت نفوسهم الغنية، وقلوبهم الثرية النقية هي ما يدفعهم إلى هذا السلوك، فكان كرمهم فطريًا رغم فقرهم، وكانت قلوبهم سخية رغم بؤسهم.

وحين ناقشت صديقي ومضيفي في هذه القضية، قال لي عبارة غريبة جدًا، قال: الكرم "جين" من الجينات النادرة لا يملكه كثير من الناس، كما إن "البخل" مكون من مكونات الحمض النووي. فلا يمكن للبخيل أن يتحول إلى "كريم"، إلا بمعجزة سماوية أو كارثة نيزكية.

انظروا إلى وضعنا اليوم، محافظنا معبأة بالريالات، وثلاجاتنا مليئة باللحم والسمك والدجاج والخضار والفواكه، لدرجة أنه أحيانًا تنتهي صلاحيتها، ونرمي بها إلى صناديق القمامة، لكن لا نفكر في دعوة أصدقاء، ولا استقبال ضيوف، على الأقل لاستهلاك هذه المأكولات، بدل رميها!

كانت أمهاتنا- رحم الله من مات منهن- دائمًا يزدن في كمية الطعام، إما لتوزيعه على الجيران، أو تحسبًا وتوقعًا منهن لقدوم ضيف بشكل مفاجئ، وكن دائمات الدعاء: "اللهم بضيف يبارك الرزق ويرفع الأجر".

النفوس اليوم أصبحت شحيحة، والقلوب أضحت كئيبة ضيقة خسيسة، الكل يغلق بابه على نفسه، ويملأ بطنه، ويطلق ريحه ولا يكترث بجيرانه، ولا يفكر بدعوة ضيف أو غريب إلى أن يتناول طعامًا في بيته.

فبادروا إلى فتح قلوبكم ومجالسكم قبل أن يعلوها الصدأ والثرى، وادعوا أحبتكم وأصدقاءكم، واقتسموا لذيذ طعامكم مع من حولكم، فسيبارك الله في رزقكم، وفي بيوتكم.

وفي النهاية كل شيء سيختفي ويندثر وستبقى تلك الذكريات الأنيقة المحملة بأريج الاحترام والكرم وعبق الوفاء والسخاء والعطاء.

بوركتم.