الكفاءة والنسب

 

بدر بن خميس الظّفرِي

@waladjameel

 

في مقالٍ سابقٍ منشورٍ بعنوان "الطبقيّة والعنصرية القبليّة" بتاريخ 28 يونيو 2021 في صحيفة الرؤية العمانيّة، أوضحنا أن قضيّة الاعتداد بالنسب هي قضيّة وهميّة، وأن الاعتداد بالأصل ليس له أصل، وأن هناك شكوكًا تحوم حول صحة نسب كل شخص، وخرجنا بخلاصة مفادها أنَّ سلسلة الأجداد التي ينتسبُ إليها الفرد قد تكون غير صحيحة، وأنّ الشخص قد ينتسب إلى أجدادٍ ليسوا بأسلافه؛ حيث أثبتت الدراسات العلميّة، والفحوصات المخبرية الجينية انتماء الكثير ممن خضعوا لامتحان "التنميط الجيني" إلى مناطق جغرافيّة ومجموعات بشرية بعيدة كل البعد عن مناطقهم التي يعيشون فيها أو مجموعة البشر الذين ظلوا يفتخرون بنسبتهم إليهم عقودا عديدة.

وتطرقنا في ذلك المقال إلى قضيّة يكاد الحديث عنها بشكل علني ينعدمُ في المجتمع العماني لفرط حساسيتها، وأنّ من يتحدث عنها كمن يدخل عشّ الدبابير، وهي قضيّة التزاوج بين الطبقات المختلفة في النسب، وأوردنا من الأدلة ما يقنع ذا لبّ بخطأ من وضعوا هذه المُسميات لهم ولغيرهم (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ...).

وكنت قد أثنيتُ في مقالي على دور القوانين العمانيّة في تقليم العصبيات بأنواعها، والسعي الحثيث إلى جعل المواطنين متساوين أمام القانون، حتى وقعت عيني على منشور نشرته شبكة عمان القانونيّة على موقعها في تويتر يتحدث عن دعاوى العضل في الزواج، وهي دعاوى تختصّ بها المحكمة العليا، جاء فيه النص الآتي: "من صور العضل أن يمتنع الوليّ عن تزويج من له الولاية عليها إذا خطبها كُفء وقد رضيته، وما منعها الوليُّ إلا طمعًا في مالها أو لطلبه مهرا كثيرا أو لمطالبات ماليّة له ولأفراد أسرته حتى لو جاء خاطب كفءٌ يماثلها سنًا وَنَسَباً"، أي أن السّنّ والنسب شرطان للكفاءة لتزويج القاضي المرأة ممن ترغب فيه حتى لو رفعت قضية عضل على وليّها الذي يرفض تزويجها.

وبالرجوع إلى قانون الأحوال الشخصيّة العماني تنصّ المادة العشرون منه أنّ "الكفاءةَ حقٌّ خاصٌّ بالمرأة والولي"، وأنه "تراعى الكفاءة حین العقد ویرجع في تقدیرها إلى الدین ثم العرف"، والعُرفُ، بضم العيْنِ كما عرفه الجُرْجانيُّ في كتابه التعريفات هو "ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباعة السليمة بالقبول". ومع احترامنا الشديد للمشرّع العماني في تقريره رجوع تقدير الكفاءة إلى الدّين، إلا أننا نرى رأيًا آخر في تقرير ما يُسمّى بالعُرف، لأنّ العرف مصطلحٌ فضفاضٌ واسعٌ غامضٌ في معناه، لطالما استغلّه العنصريّون من أجل تمرير أجنداتهم، ومن أجل توسيع الهُوّةِ بين أفراد المجتمع الواحد، وتكريس الطبقيّة بينهم وبين الآخرين، حتى تكون لهم أفضليّة معيّنة ليست مبنيّة على الجهد والعمل والاستحقاق؛ بل مبنيّة على حقٍّ متوهّم ورثوه من آبائهم، ويريدون أن يورِّثوهُ لأبنائهم من بعدهم.

أما بالنسبة للدّين فلم يسلم أيضًا من تحريف تعاليمه وَليِّ نصوصه؛ بل واختراع نصوصٍ حتى تتناسب مع تلك الأفكار البالية، وانظر أيها القارئ الكريم/ أيتها القارئة الكريمة إلى هذه الرواية الموجودة في مسند الإمام الربيع بن حبيب في كتاب "النكاح" باب "في الأولياء" رقم 519، وهذا نصّها: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الأحرار من أهل التوحيد كلهم أكْفَاء إلا أربعة، المولى والحجّام والنسّاج والبقّال"، والرواية تعني أنّ من يعمل في مهنة الحجامة وهي سنة نبويّة شريفة حثَّ عليها الرسول الكريم، ومن يعمل في مهنة النِّساجة، وهي مهنة لا غنى للناس عنها من حيث ستر عوراتهم بالثياب، ومن يعمل في مهنة البقالة وهو تاجر يبيع الموادّ الغذائيّة، كلّ هؤلاء إضافة إلى المولى، كلّهم غير أكفاء للزواج من الأحرار والحرائر من المُسلمين والمسلمات من أهل التوحيد! فأيُّ عقل يقبل بهذا الكلام؟ وهل يمكن أن ينطق الرسول الكريم بهذه الكلمات العنصريّة؟! كلاّ وحاشا!، ونحن نعجب كلّ العجب من ورود مثل هذه الرواية في مسند الإمام الربيع- رحمه الله- وإن كانت من مَثلبةٍ تعيبُ هذا المسند الحصيف، فهي هذه الرواية العجيبة.

وفي رَدٍّ موضوعيّ رصينٍ على هذه الرواية وغيرها من الروايات في قضيّة كفاءة النسب، ألّف عبدالحميد بن حميد الجامعي كتابًا قيّما أسماه "الكفاءة والمشروع الإلهيّ في العالم" فصّل فيه تفصيلا شاملا هذه القضيّة، وقلّبها تقليبا من جميع النواحي، وأورد في الكتاب أقوال المذاهب الإسلامية من إباضيّة وشافعيّة وحنفيّة ومالكيّة وحنابلة وإماميّة وزيديّة، وردّ عليها قولاً قولاً، وضرب أمثلة عديدة سواء من حياة الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسّلام، أو من حياة الصحابة رضوان الله عليهم من بعده، أو من حياة التابعين أو العلماء، تدلّ على وقوعِ التزاوج بين المسلمين بغض النظر عن أنسابهم وأصولهم، وخرج بخلاصة مفادها أنَّ هذه القضيّة لا أصل لها، وإنما الأصلُ أنّ الناس لآدم وآدمَ من تراب، وأنه لا فرق بين عربي وأعجميّ إلا بالتقوى، وأنّ العدل والمساواة بين البشر هو المشروع الإلهيّ في العالم، والأساس الذي تقوم عليه الرسالات السماويّة جميعها.

وفي هذا السياق، أورد لك أيها القارئ الكريم/ أيتها القارئة الكريمة نصّا لفتوى للعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي السابق للمملكة العربيّة السعوديّة، ردا على سؤال حول هذه القضيّة، حيث قال رحمه الله:

"لا يشترط الكفاءة في النسب. يجوز للعربي أن ينكح من العجم، والعجم ينكح من العرب، وينكح من الموالي، كل هذا جائز، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[. وقد زوّجَ النبي ﷺ أسامةَ بن زيد فاطمةَ بنتَ قيس القرشية، وزوّجَ أباه زيدَ بنَ حارثةَ زينبَ بنتَ جحشٍ أمَّ المؤمنين قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهي أسدية، وزوج عبدُ الرحمن أختَهُ لبلال الحبشي، إلى غير هذا. المقصود أنَّ هذا ليس بشرط، .... لو زوج عربية عجميًا، أو عجمية عربيا، أو مولى قد أعتق، أو ما يسمونه بالخضيري الآن، وهو الذي لا تعرف قبيلته، أو ما أشبه ذلك، كله لا بأس به...".

وفي الحقيقة، كانت هذه القضيّة من ضمن القضايا التي تؤرق المجتمع السعوديّ، وكان القانون فيها غير واضح، وكان موضوع الحكم في قضيتيْ كفاءة النسب وانتقال الولاية عند ثبوت العضل يترك لتقدير القضاة، الذين قد تتحكم فيهم عصبياتهم القبليّة وأهواؤهم العنصريّة وضغط المجتمع عند إصدار الأحكام، حتى صدر مؤخرا قانون جديد وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة، ورجّح كفاءة الدّين في مسألة الكفاءة في الزواج، ورفض ما سواها، فقد نصّت المادة الرابعة عشرة من نظام الأحوال الشخصيّة السعودي في جزءٍ منها أنّ "العبرة في كفاءة الرجل بدينه، ولا يعتدّ بالكفاءة فيما عدا ذلك"، ونصت المادة العشرون من القانون ذاته أنْ "ليس للوليّ- ولو كان الأب- منع موليّته من الزواج بكفئها الذي رضيت به" و"تتولى المحكمة تزويج المرأة المعضولة بطلب منها أو من ذي مصلحة، وللمحكمة نقل ولايتها لأيٍّ من الأولياء لمصلحة تراها، أو تقويض أحد المرخصين بإجراء العقد".

ونحن نرى أنّ هذه قفزة كبيرة وخطوة مهمّة نحو التقدّم والحريّات في بلدٍ مثل السعوديّة، الذي يعدّ محافظا وقبليّا إلى حد كبير، وما كان لهذا أن يتحقق لولا الإرادة السياسيّة القويّة للأمير الشاب محمد بن سلمان، الذي يُهيّءُ بلده لتصبح في مصاف الدول العالميّة من خلال تجديد القوانين والتشريعات في جميع مناحي الحياة.

ونحنُ في السلطنة، تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مجدد نهضة عمان الحديثة، نرجو أن تُعدّل القوانين لتكون أكثر وضوحًا في هذه القضيّة، وأن يلغى كل ما يفرق الناس على أساس النسب والأصل والقبيلة، وهي قضيّة طالما سببت صداعاً يمكننا تجنبه، ومشاكلَ نحن في غنى عنها، وأن يعمل الجميعُ في هذا البلد يداً واحدةً، دون أن يُحسّ أيُّ فرد منهم بأنه أقل منزلة من غيره، أو أن القوانين تميز بينه وبين الآخر على أسس جاهليّة عفا عليها الزمن، وبهذا تضمن الدّولة الولاء المطلق لها من قبل جميع أفرادها، وإخلاص مواطنيها.

تعليق عبر الفيس بوك