المنصوري في ذمة الله

 

سارة البريكي

Sara_albreiki@hotmail.com

 

 

حينما أبصرت النور يوما لم أكن قبلا أعلم الأشياء وهذا أمر طبيعي، ولم أكن أفقه الإعياء الذي كان يصيبهم من جراء النصب والوصب بسبب عنت التربية ومشاقها ومر الحال آنذاك، وكان هو حينما تبصره عيناي، أجده دائما شخصا حانيا لطيفا بشوشا محبا لي ولأخواتي وأخي، فكنت صغيرته المدللة، وحبيبته الصغيرة المعززة، وكان يقول لي "ماه" كعادة كبار السن لدينا من الأجداد والآباء، حينما كانوا يتحدثون مع الصغار من بناتهم، فكان لي ملهماً، وكان لي مدرسة وعلوما ومعارف شتى وثقافة.

كان كبيرا في عمره حتى شارف على المئة عام، وكان كبيرا أيضا في ورعه وأدبه وأخلاقه ودلاله لنا، كان هادئا مع شدة وحزم ورزانة ولين في آن واحد، وكان شاعرا كبيرا وناظما للقول بديعا، كان كل الوقت مبتسمًا فرحا، طيب القلب سخيا من غير سخط، وأبيض النفس من غير حقد وحسد، تربيت بين يديه، وترعرعت أمام عينيه، فسمعته ينشد للزرع والبحر والصحراء والفيافي ومختلف أشجار الفاكهة والمحاصيل الزراعية، وواساهن في شعور صادق، واقترب منهن في تبتل وكأنه الصانع الحاذق، ولم لا وهو الذي كان رجلا في تواضع، وهيبة في رحمة وحكمة وتسامح كأنه نور ساطع، فزرع النخيل وأشجار الفاكهة كالمانجو وغيرها، فكان بدويا في بيئته، وحضريا في سكينته ومسكنه وصومعته، كان معلما بمدرسته، وأستاذا بحضرته، وكان لزاما علينا بعد عودتنا من المدرسة التوجه له، حيث يأخذنا إلى (النخل الباسقات) أي مزرعتنا، حيث كانا يزرعان هو وجدتي ما طاب ولذ.

كانا معا يهتمان بادق تفاصيلنا، وكانا يطوقان على مفاصل الحياة إجمالا، كانا ثنائيا رائعا متعاضدا، وشريكين بدون تباعد، فكانا معنا ومع الناس والنخل كرماء، نعم فذاك الذي حدثتكم عنه إنه جدي لوالدي، الذي ودعنا مساء الإثنين الفائت، بعد أن استسلم جسده النحيل للداء، ولم يكن بمقدوره أن يتفاعل مع الدواء، فسكنت روحه إلى الأبد، وفاضت إلى خالقها وبارئها أمد أمد، فيا الله جدي ضيفك، فاكرمه بما انت اهله، وتغمده بواسع رحمتك واسكنه فسيح جناتك.

يا جدي رحيلك أوجعنا، وفقدك آلمنا، ولا نقول إلا كما قالوا "إنا لله وإنا إليه راجعون".

مما أذكره أننا كنا نلقط حبات التمر التي تسقط من النخل بعد أن يعسفها جدي لنا، وكانت مزرعتنا تجاور المقبرة في قريتي أم الجعاريف التي آمل من الحكومة تغيير مسماها إلى مسمى جميل آخر، فالمهم كنا نخاف كثيرا من الوحدة، ولكن عندما كنَّا نرى جدي تغمده الله بواسع رحمته وطيب الله ثراه، كان يهدأ كل ذلك الخوف والقلق.

كان جدي يغني لنا ويلاطفنا باللعب معنا، فكان يخلع كمة رأسه ويقول: "من بيلبسني كميتي؟! من بيلبسني كميتي؟!" فكان كل واحد منا يقول "أنا.. أنا.. أنا"، وكان جدي يفرح عندما نذكره بالأشياء البسيطة، وكان أيضا يسعد عندما نأتي له بهدايا عديدة من سفرنا، وكان مما يتمتم به، إنه كان يدعي لنا بالصحة والعافية والعمر المديد.

وعند مشاركتي في مهرجان الشعر العماني الرابع بولاية صور، كان جدي الحاضر القريب مني ومعي، فكان هو مرافقا لي، وكان سعيدا بي ومشجعا لي، فتحمل عناء السفر ومشقة السفر من صحم إلى ولاية صور، إذ إن المسافة بينهما آنذاك كانت متعبة بسبب الطريق الذي كان يمر عبر طريق وادي العق، مرورا بإبراء وولايات شمال وجنوب الشرقية.

أما اليوم فقصرت المسافة وهانت، فالطريق إلى صور صار الآن سهلا عن ذي قبل، فمن العامرات مرورا بقريات، وبعدها تجد نفسك في ولاية صور.

إن جدي رغم كبر سنه، إلا أنه كان قويا متماسكا صلبا، وعندما عدنا الى صحم، بدت علامات التعب والإرهاق تظهر عليه، ورقد في المستشفى وقتئذ، وكانت هي المرة الأولى في حياته التي كان يتعرض فيها لوعكة صحية، ويدخل على إثرها المستشفى، وعندما تم وضع السقاية له قال: انظروا لقد عملوا لي عملية؟! كان تفكير جدي البسيط بحجم جماله وجمال الكون كله.

لقد رعى جدي جدتي خديجة أي زوجته واهتم بها سنينا طويلة، فقد كانا كعصفورين جميلين لا ينفكان ولا يتفارقان، في زمن فقد فيه الحب الحقيقي، الحب الذي كان لا يهزمه مرض ولا موت، وكان جدي يطوف في أرجاء قريتي (أم الجعاريف) بيتا بيتا، للسلام والاطمئنان عليهم، وكان محبوبا من الجميع، وكان أيضا أبا للجميع.

فلقب بالمنصوري أي ناصرا للضعفاء والمساكين وشهما بنصرته للجميع، وعرف بهذا اللقب حتى توفاه الله مساء الاثنين الرابع عشر من مارس الجاري، وارتبط به كالسلطان المحبوب.

كان جدي طيب القلب مرهف الحس سريع الغضب وسريع الرضا، وكان الشاعر الإنسان بمعنى الكلمة، فقلد تعلق جدي بأبي وأحبه حبا كثيرا، لأنه ابنه الوحيد وسط عدة بنات، فكل ذاك الحب لوالدي لا تصفه دواوين، ولا حتى معلقات ولا روايات طويلة، ذلك الحب كنَّا نراه في عين جدي وفي كلامه وفي غياب أبي وحضوره.

كان والدي (علي) هو الأبن الحبيب المقرب لجدي، وكان الحكاية العظيمة وقصيدة العشق والحب الأبوي ومنظومة الهيام الأبدية، فجدي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، أحب السلطان الخالد فينا السلطان قابوس- طيب الله ثراه- حبا كبيرا، وكان يضمنه في قصائده وأشعاره، وكان يثني عليه، ومما قاله جدي رحمه الله: أنشيت قولي واستقام.. ومدحت سلطانا هماما.. كم قرية فيها حرب.. ما بقا فيه حزب.. صار خيره كالغمام.. اسقى وعمر ما خرب... إلخ.

كنت أرى جدي دائما ضاحكا مستبشرا، وكنت أرى السكينة تغمر قلبه، والورع يعمر بيته، فكان الشهم المقدام المناضل المحب للخير.

جدي الحبيب جدي الكريم جدي الغالي، أبقيتنا في صدمة وذهول، فالحنين يشدنا إليك وغيابك يقتلنا مرات كثيرة،  فهل يعقل يا جدي تركتنا، هل يعقل يا جدي أن يأتي رمضان هذا العام بدونك!؟ هل يعقل أن ترجلت إلى مثواك الأخير ورحلت عنا بلا عودة، هل يعقل يا جدي لن نرى وجهك في أيام شهر رمضان وفي العيد؟! فأنت كنت العيد كله لنا!

لا أملك إزاء هذا الفقد العظيم والمصاب الجلل، إلا أن أقول ياربي الطف بقلوبنا وبجدي، واكرم نزله ووسع مدخله، واغفرله وارحمه، واعف عنه وعافه، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا والذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار، آمين يارب العالمين آمين.