"بانت سعاد" بين الشهرة والمتعة

 

ميثاء بنت ناصر الجابرية

تتنوع القصائد في العصر الإسلاميّ والأمويّ، وهي كثيرة من الصعب حصرها  لذلك كان لا بُد من تسليط الضوء على بعض القصائد لنتمكن من فهم هذا الأدب فهمًا عميقًا، فدعنا نسلّط الضوء على قصيدة كعب بن زهير "بانت سعاد"، والدلالات التي عبَّر عنها، وسبب وصفها بمجموعة من الصفات المعنوية السيئة، ومعنى رحيل سعاد.

نبدأ بالتحدث عن الصورة التي رسمها كعب لسعاد، والدلالات التي عبَّر عنها فقد بدأ بالتشبيب وذكر محبوبته بوصف محاسنها، وشبهها بالظباء، وذكر ثغرها وريقها، وشبهها بخمرة ممزوجة بالماء، ووصفها بالصدّ وأنَّها تخلف الوعود وتتلون في الود، ويلوم نفسه على التَّعلق بها. وإن الناقة كانت هي سبيل الوصول إلى هذه المحبوبة. وهذا الشاعر لما فارقته سعاد حزن قلبه حزنًا شديدًا، وأصبح كالأسير الذي لم تُدفع فديته.. ووصف سعاد بالغزال المكحول ليدل على جمالها وجمال عيونها، وأنه أحيانًا يكف عن التأمل لدلالة الحياء من الله أو الناس. وأنها عند فراقها ورحيلها تشبه الظبي الموصوف بثلاث صفات وهي الغنة في الصوت، وغض الطرف وهو من صفات الجمال، والكحل وهو من صفات الجمال أيضًا. وذكر الضواحك وهي ما بعد الأنياب من أسنان محبوبته فهي عندما تستاك ثغرًا رائحته برائحة الخمر، وكذلك وصف الرّاح بأنها شجّت بماء بارد الذي ضربته ريح الشمال في الوادي. وأن الرياح تكشف عنه ما يعلوه. ويقول الشاعر ما أكرمها لو أنها وفت بوعدها أو قبلت النصح للدلالة على عدم وفائها بالوعود، وعدم تقبلها للنصح، وأن من صفاتها الكذب والإخلاف، وهذه الصفات تجري في دمها ولا يمكن تبديلها وهي لا تبقى على حال واحد، وتتلون كما يتلون الغول الذي يغير جلده في كل مرة ويغتال الإنسان ويهلكه. ووصف إمساكها بالعهد بإمساك الغرابيل للماء للدلالة على إخلافها للعهود، وأنّ مواعيد هذه المرأة كمواعيد عرقوب الذي يُضرب به المثل في إخلاف المواعيد عند العرب قديمًا. ويرجو الشاعر مودتها ووصلها، ولكنّه ينبه من تصديق وعودها فكلامها تضليل. وهذه المرأة أصبحت بعيدة لا يبلغها إلا الإبل أو الناقة الصلبة العظيمة.

لم وصفها بمجموعة من الصفات المعنوية السيئة؟

وإذا أتينا إلى سبب وصفها بمجموعة من الصفات المعنوية السيئة، فوصفه لها بهذه الطريقة يعكس حالته النفسية التي عبَّر عنها. برأيي أن في هذا الموضوع عدة احتمالات واعتبارات؛ فمن الممكن أنّه كان خائفًا من أن يقتلوه، فإذا أطال في مدحها وعبَّر عن فرحه وسروره فهذا يعني أنَّه غير خائف من القتل، ويمكن أن تكون النتائج سلبية وخطيرة جدًا بالنسبة له. واعتبار آخر أنّه لم يكن يقصد امرأة مُعينة، وإنما يقصد السعادة والفرح والسرور التي فارقته بعد أن سمع بخبر إجماع النَّاس، وموافقتهم على قتله، وبحثهم عنه. فبالتالي لجأ إلى وصفها بهذه الصفات السيئة بسبب حالته النفسية التي لا تسمح له بإخفاء ما يكن لها من مشاعر وأحاسيس متراكمة. ومن وجهة نظري ذكر صفاتها السلبية لكي لا يكون كاذبًا وليخبر عن مشاعره بكل صدق ويبتعد عن تشكيك الناس فيه إذ كيف تكون محبوبته بكل هذا الحسن ولا تمتلك أي صفات سلبية فهي بشر، ويمكن أن يكون ذكر هذه الصفات لكي يتقبلها كما هي... فهو يحبها بالرغم من هذه الصفات السيئة التي تمتلكها بتركيزه على الجانب الإيجابي منها أكثر. وربما أراد أن يوصل فكرة عمق الحب الذي لا يُمكن لأي شيء أن يوقفه، فلا نقضها للوعود، ولا كذبها، ولا أي صفة من صفاتها السلبية يمكن أن توقف هذا الحب، فهو حب غير مشروط... حب بالحلو والمر... حب بالعيوب. ويمكن أن يكون سبب ذكر هذه الصفات السلبية لكيلا يمدحها كثيرًا فتتكبر عليه وتبتعد عنه.

وعند التحدث عن معنى رحيل سعاد، فكلمة "بانت": أي فارقت ورحلت، وسعاد هو علم مرتجل يريد به امرأة يهواها حقيقة، أو ادّعاءً. فقد نقضت الوعد ورحلت وهو مازال معلّقا بها. ورحيلها يعني رحيل السعادة وراحة البال؛ لأنه متعلّق بها تعلقًا شديدًا فبعد أن أجمعوا على قتله أصبح غير مرتاح ولا يهدأ له بال، ويشعر بالحزن الشديد الذي يتقطع قلبه بسببه. وبدأ برحيل سعاد والتشبيب؛ ليجذب انتباه السامعين، وليرأفوا بحاله، ويقرّب إليهم مشاعره الدفينة للصفح عنه. ويمكن أنه يقصد وصف حياته في الجاهلية التي سيفارقها وستنتهي بعد دخوله للإسلام. ورحيل سعاد يشعل الحماس في نفس المتلقي والحيرة والفضول عند الابتداء بالسلبية والانتهاء بأمور إيجابية.

تعليق عبر الفيس بوك