الصنم الجديد

 

عبدالله الفارسي

أرسل لي أحدهم مقطع فيديو عجيبًا غريبًا "قطة تتأهب لافتراس حمامة.. فتهيأت للقفز عليها وافتراسها وحين قفزت نحوها، فوجئت القطة بأنَّ الحمامة لم تتحرك من مكانها فقد كانت حمامة عمياء، فأنزلت القطة رأسها خجلًا وحياءً، ورجعت من حيث أتت"..

تخيلوا قطة جائعة تأبى أن تفترس حمامة عمياء عاجزة عن الهرب والطيران، ونحن نعيش في مُجتمعات بشرية يفترس فيها الأقوياء الضعفاء دون رحمة ويأكل الأغنياء فيها العميان والفقراء دون شفقة ويفتكون بهم فتكا، يا لها من مُفارقة مريعة ومصيبة عظيمة أننا لانملك حتى حياء القطط وكرامة السنانير!

لا أعلم ما سر علاقة الإنسان بالأصنام وارتباطه الوثيق بها، فحين نقرأ التاريخ ونتصفح حياة السلف والأجداد في زمن الجهل والطين والرماد تفاجئنا الأخبار بأنَّ الإنسان عمومًا والعرب خصوصا كانوا على ارتباط وثيق بالوهم والقدر؛ حيث كان يملأ صدورهم إيمان عجيب بالغيب واعتقاد راسخ بالرب والآلهة. وكانوا على تواصل دائم مع الرب/ الإله؛ لذلك رسموه في مُخيلتهم بصورة معينة دفعتهم إلى تحقيقه وتجسيده في الواقع على شكل صنم عظيم، فصنعوه من الحجارة والطين وأغرقوه بالإيمان والعبادة واليقين. ثم وضعوه في مكان خاص فأخذوا يزورونه ويعبدونه كلما سنحت لهم الفرصة أو حرقتهم شعلة الإيمان والتدين. وإذا لم تسنح لهم الفرصة فهناك حل آخر وطريقة أخرى، وهي صناعة صنم صغير جميل من الفخار أو الخشب والطين على صورة صنمهم الأكبر ويحملونه معهم أينما رحلوا وارتحلوا. كان العربي يحمل صنمه الصغير هذا أينما حل وارتحل مُعتقدًا أنه سيحميه من نوائب الطريق ومفاجآت الليل والظلام والشر والحريق، فكان يضعه في وسطه مربوطًا في حزامه أو يدفنه في عمامته ويحمله فوق رأسه.

تطورت الحياة وتغيرت الدنيا وتطور الصنم وتغيرت أشكاله وألوانه وأحجامه، ولكنه ظل كما هو من حيث القيمة والمكانة، ظل هو الصنم المعبود والوثن المقدس المحبوب، يحمله الإنسان أينما ذهب ليعينه على نوائب الدهر وأوجاع القدر ويملأ حياته وناسة وفكاهة وسفاهة وهرجا ومرجا.

هل عرفتم الصنم الجديد؟ إنِّه "الهاتف النقال"، هذا الجهاز الصغير والصنم اللعين الذي أحدث ضجة عالمية فدمَّر الأخلاق وهدم القيم وبعثر الحياة فملأها تفاهة وسفاهة وسخافة وانحلالًا وعربدة.

ملأت قضاياه المحاكم، وأفسدت برامجه البيوت والمنازل، ودمَّرت تطبيقاته العلاقات والصداقات وفككت ذاكرته العهود والمواثيق والذكريات والروابط.

كم من مصيبة جلبها هذا الجهاز اللعين؟ وكم من كارثة أحدثها هذا الصنم التعيس في مجتمع الرجال والنساء وبثَّ سمومه بين البنات والبنين؟ حتى نكاد نقول إن كل مصيبة اجتماعية كان بطلها هذا الجهاز الصغير وكل مصيبة أخلاقية زعيمها هذا الصنم الجديد الذي يعبده القريب والبعيد والكبير والصغير. هذا الجهاز الذي لوث القلوب وميَّع المشاعر وكشف المستور وفضح المدفون. فيمكن لكل واحد منَّا أن ينسى حمل كل شيء مهم لديه، ولكنه من المستحيل أن ينسى حمل صنمه اللعين هذا معه، فبدون هذا الصنم لايمكن أن يبدأ اليوم بشكل طبيعي، وحتمًا بدون هذا الصنم لن ينتهي اليوم براحة وهدوء.

الكل يحمل صنمه آناء الليل وأطراف النهار يحمله في يده أو يضعه في جيبه، والكثير منَّا يلبسه أفضل لباس ويمنحه أجمل غطاء وأفضل وعاء لحمايته وصيانة جسده ووجهه، أصبح الواحد منا لا يعرف أن يمشي إذا لم يكن صنمه في يده، ولا يطمئن قلبه وتتبعثر خطواته إذا لم يكن صنمه مستقرا في جيبه، ولا يتمكن من الوقوف بثبات إذا كان صنمه بعيدا عن عينه، ولا تستقر روحه إذا لم تلمس الأصابع الصنم وتتحسس الشاشة، وستتبعثر دقات القلب ويضطرب الفؤاد إذا الأيادي لا تداعب الوثن وتعانق الصنم.

أصبحنا ندخل المساجد لنعبد الله وصنمنا في جيوبنا ويعلم الله ما فيه من البلاوي والمصائب والعظائم والمفاسد، وحين نقف لله خاضعين خاشعين تتحرك أيادينا دون أن نشعر إلى صنمنا العزيز لنتأكد أنَّه ينام في جيبنا صامتًا هادئًا ساكنًا. وحين ننتهي من الصلاة مطهرين من الذنوب والخطايا ونخرج من المسجد وقبل أن نقول "اللهم افتح لنا أبواب فضلك" نمسك بصنمنا الحبيب لنلقي عليه التحية ونمنحه نظرة الرضا وبسمة الولاء والغرام.

أما في بيوتنا فهناك يلعب الصنم لعبة عظيمة ويستعرض عضلاته ومهاراته العجيبة، فحين تجتمع الأسرة آباء وأمهات وأبناء وتتقارب الأجساد في المجالس تتباعد الأرواح بشكل تلقائي متجهة إلى صنمها العجيب ومعبودها الوحيد.

كل العيون موجهة للصنم اللعين، وكل القلوب خاشعة لكلامه الخبيث وصوته الكريه، يتبادل الآباء والأبناء والإخوة والأخوات والأزواج والزوجات فيما بينهم نظرات باردة ويرسلون لبعضهم مشاعر ميتة، بينما يمنح الصنم اللعين كل نظرات الحب والدفء والجمال والخشوع والشوق والوله. كل منِّا يكون ماسكًا صنمه يلاعبه ويداعبه ويضاحكه ويهدهده، ولا نلتفت إلى بعضنا إلا بعيون ساهية ونتخاطب بكلمات يابسة وعبارات جافة خامدة بالكاد تسمعها الأذان أو تستشعرها القلوب.

نهدي "صنمنا" كل أصناف الكلمات الحية وأشكال العبارات الناضجة المزركشة الطرية ونهدي بعضنا الصمت والسكوت والخفوت والجمود، فكل القلوب متوجهة إلى صنمنها الحبيب، وكل الأفئدة مُتعلقة بمعبودها الجديد. وقبل النوم والانتقال إلى الموتة الصغرى لا نمنح بعضنا بعضًا الكلمات الدافئة ولا نقبل بعضنا قبلات الحب والإعجاب والرضا والغفران ولا تلامس أرواحنا أرواح بعضنا أبدًا؛ بل نضع قبلة جميلة نابعة من أعماق الروح على صنمنا اللعين ونضعه بجانب رؤوسنا كطفل حبيب وولد عزيز أثير.

وحين نستيقظ من موتتنا الصغرى وقبل أن نقول "الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"، نمسك فورًا بصنمنا اللعين ونمسح على صدره الشفاف الأنيق، ونمارس أولى طقوس عبادة النهار في هذا اليوم الجديد.

فيا له من صنم عجيب! ويا له من إله غريب فريد!

فتبًا لك من حياة.. وتعسًا لك من إلهٍ!