ظفار.. أيقونة الخلود

علي بن سالم كفيتان

لامستني نفحات الصيف الهادئة في جبال ظفار؛ حيث بدأت براعم الأشجار تعود للحياة ووريقات صغيرة تولد من رحم الجذع الأسمر، وذكرتني الوديان الفسيحة واحتفالات الطيور على ثمار التين في أعالي الأشجار وتسابق المواشي إليها كل صباح للمِ ما فقدته العصافير أثناء عراكها في القمة، كل ذلك يأخذني بعيدًا إلى الماضي الجميل، فما زلت أسمع نعيق الغربان في المساء على العين، ففيه الكثير من الوحشة، وقد غادر الجميع وأبي لم يعد مضطجعًا على ذلك الجدار ليضفي على المكان المهابة التي كنت أشعر بها في حضوره.       

سقطت أشجار التين العملاقة الواحدة تلو الأخرى ومعها تسقط الكثير من الأرزاق، لكن يقيني أن الله يمنح البديل، رغم افتقادي للظل الذي رحل وروح الأشجار التي لا يمكن محوها من ذاكرتنا، سألت نفسي: أين ذهبت الأرواح الخالدة وأين هاجرت الطيور التي كانت تسكن معنا؟

ما زال هناك رجل واحد يجوب الأرض ويلامس ترابها بحنية ورفق مصطحبًا قطيع أغنامه إلى حيث كان الجميع يبدو لي وحيدًا، ولكنه لا زال يناغي المكان ويتذكر سنوات من السمو والعزة لم تضعفه الأيام ولم ينحرف قيد أنمله عن مبادئه الطاهرة، لم يكن ثائرًا بالبندقية ولكنه صنع ما هو أبعد من ذلك يعرفه الذين يجوبون الطريق الطويل بحثًا عن الحرية، فيستسلمون لا إراديًا لمحطته الثابتة وسط الجبال؛ حيث ينامون دون خوف، فعندما تغط الجموع المنهكة في الكهف يظل هو متأهبًا حتى يقوم الجميع على تلك القامة الفارعة، وذلك الجسد المنتصب يصلي الفجر، فتلملم أم الرجال أدوات الحليب وتنادي القطيع؛ فيزداد ثغاء الصغار المتحفزين لأخذ وجبتهم الصباحية تحلب الأغنام حتى يكتفي الناس، وهنا تودع القافلة محطة هذا الرجل ليستقبل أخرى قادمة.

الأبناء جبلوا على عدم الإفصاح عمن قدم ومن رحل، وذات مرة قدم شابان من المدينة تفطرت أقدامهما وتقطعت بهما السبل، فرحبت بهما الأسرة واحتوت جراحهما وجوعهما حتى رحلا مع قافلة جديدة بحثًا عن الحياة الجديدة. صمد الرجل ولا زال إلى اليوم وفي لكل الذين مروا عليه، فلا حديث عنهم ولا عن مآربهم ولا عن أخطائهم. عندما أفقدُ أبي أبحث عن عمي فأجده لا زال يسلك نفس الدروب، ولا زالت ابتسامته حاضرة، ربما لم يعد يقوى على مُلاحقة قطيعه بعيدًا كما كان يفعل في الماضي؛ بل يراقبها من القمم والمفازات خوفًا من الذئب؛ فصيحة واحدة كفيلة بتغيير هذا المفترس لمساره بعيدًا عن الديار.

تأتي سيدة تجر أبناءها خلفها ولديها بضع غنيمات، ترحب بها أم الرجال، وبعد أن استراحت قالت: أنا وأبنائي سنتوجه للمدينة وهذه الأغنام لا أستطيع اصطحابها معي، فقالت لها: اتركيها هنا ولا تهتمي، وعندما تتحسن الظروف ستجدينها في الحفظ والصون. وبهذا تقاطعت القوافل في محطة أحمد جيلال وأسرته الصامدة في وجه الزمن المُر، فاستقطب عشرات الأغنام للناس الفارين بأنفسهم إلى الملاذات الآمنة في المدينة، وكذلك الذاهبين للغرب للبحث عن ذات الهدف كانوا أطفالًا ونساءً وثوارًا عائدين، الجميع يعد نفسه لبلوغ هذه المحطة؛ فهي أحد برور السلامة، ولقد احترم طرفا الصراع نزاهة هذا المكان وأهميته، في وقت نزح فيه الكثير من الناس بحثًا عن الأمل الذي بدأ يرسمه السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-.

تشتاق ظفار لحسيس أقدام هؤلاء الرجال وتعلم أنهم خلقوا فيها كجبالها وأشجارها وهوائها ومائها، فهُم جزء من الصورة المشرقة لإنسانها، قلوبهم ألفت الفقد وتعودت عليه، ودفاعهم الأول والأخير هو عن بقاء القيم النبيلة في هذه الجبال في صبرهم وجلدهم، لكي لا يقال إن الأرض خلت مناكبها من روح الصمود والكرم وقيم الشجاعة، وخاصةً في وقت المحن والملمات العظيمة لذلك أحبتهم ظفار وأحبوها، ولقد مجد جلالة السُّلطان الراحل هذه القيم العالية، فكان يكرم أصحابها ويثني عليهم ويسأل عنهم، مثلما كانت تفعل السيدة الجليلة والدته، رحمهما الله وأحسن إليهما.

ستظل ظفار الخزين الذي لا ينضب من القيم النبيلة والروح الوفية للتراب الأصيل، فإن غادر الآباء سيظل الأبناء مرابطين على ثغور أجدادهم لكي لا يُقال ذهبت المروءة من ظفار؛ ففيها يفك أسر الغارم وتمسح دموع الأرامل والأيتام ويقصدها من أعياه الفقر وأكله الدهر..

فظفار هي أيقونة الخلود.. وحفظ الله بلادي.