كيفما كانت هي جنتك

 

هند بنت سعيد الحمدانية

كل شيء يعود إلى أصله، يعود إلى ينابيعه التي ارتوى منها وتفيأ في ظلال نخيلها، يعود إلى مواطن الدفء وإلى ذلك الإحساس الذي لا يتولد إلا إذا كان المكان جزءا من الكيان ورباطا أصيلا للروح أو ما اختلط به الدم بالدم، لذلك نسعى في هذه الدنيا ونسافر إلى شتى الأقطار ونهاجر بعيدا جدا ثم نعود مجددا لذلك المهد ولرائحة المهد التي تعشش في خلجات الروح فتطفئ الغربة كلما ركنَّا إليها شوقا وحنينا وحبا وحنانا.

وكلما عظم الموصوف كان من الصعب على الواصف الاسترسال في إطلاق السمات عليه واستخدام اللغة والبلاغة، فهو تماما كالشمس المُلتهبة يثقل علينا وصف خيوط أشعتها المتقدة لكل عين تفقد القدرة للنظر إليها، تلك هي الأم شمس في شروقها وحنين موجع في الغروب، هي مهد الحب الأول وفرحة صباحات الأعياد، ورائحتها التي تفوح بعبق أيام ميلادنا التي تتكرر علينا أبناء وآباء وأجدادا وأحفادا.

تلك هي الأم وطن لا ينام، وعطاء مُتجدد بكل امتنان، لن نزايد في حبها، ولن نبلغ في وصفها مبلغ رسول الله في أكثر من حديث، فهي الأحق بالصحبة في الأولى والثانية والثالثة، هي أمك وأمي وأم الجميع، ولكنها قبل أن تصبح أما كانت فردا في مجتمع وابنة في أسرة، تتمتع بصفاتها الجيدة والسيئة، كاذبة كانت أو صادقة، أمينة أو مخادعة، مؤمنة أو كافرة، ثم شاءت لك الأقدار أن تصبح أمك، وشاءت لها الأقدار أن تكون جنتك.

في هذه الأسطر لا أتناول مدحا لا يختلف فيه اثنان في حق الأم الأصيل وفضلها النبيل المكفول من فوق سبع سماوات كما جاء في التنزيل: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير"، وإنما أخوض معكم عباب موج قاس على القلب، موج من فوقه موج من فوقه سحاب، يصعب على المرء الخوض فيه أو الإسهاب، لأنهن الأمهات فلا نذكر منهن إلا أنقى الصفات، فكيف نتعامل مع الجانب المظلم من تلك الروح، كيف نبرها ونحسن صحبتها ولا نصل لحدود العقوق، كيف ندثر النار المنبعثة منها دون أن نطفئ وهج الإحسان إليها، كيف نخفض لها جناح الذل من الرحمة دون أن نغضب الله أو نطيعها في معصيته.

لا يكسر المرء إلا روابط الروح، لأنها لا تفك إلا بالموت، وبعدها نحاسب عليها حسابا عسيرا إن كنَّا مقصرين أو إن لم نفطن للموازنة في التصرف والأخذ والرد والتعبير، والأم هي أعظم تلك الروابط، فكيف تحسن لها إن كانت مخطئة، كيف تحملها هوينا من ضلال قديم إلى نور الهدى وظلال الرحمن الرحيم، كيف تلين لها خاضعا وتشفق عليها راعيا إذا كانت قاسية ظالمة، كيف تصفي قلبك مسلما لها إذا كانت ذات قلب غير سليم، هنا تكمن الموازنة.

فتنة الأم ... مؤلمة، فتنة تحتطب من أجل إشعال نارها الأم هي فتنة لا يطفئها ماء، هي أقرب للموت البطيء الذي تطلب فيه الشفاء ولا تجد إلا العزاء، فكيف إذا أشعلتها بين الإخوة والأبناء، كيف إذا أشعلتها بين ذوات الدم الواحد، من يطفئها إذا كانت الأم من أضرمها، من يطفئ تلك الفتنة وهي أشد من القتل، والأشد منها أنك يجب أن تحسن الصحبة وأن تخفض لها ولنارها جناحيك، هنا تكمن الموازنة.

ضعف النفس واليأس الذي تسلط على يقينها فأصبحت رهينة بيد المشعوذين، تلك الأم الآثمة والضحية التي أصبحت أداة بيد السحرة ومُمارسي الشعوذة، تتردد كل مساء على بيوت العرافات، تائهة في سراديب الجن ومحملة بالطلاسم من مقبرة إلى مقبرة، تلك أيضاً أم وتحت قدميها جنة لأبنائها، كيف لهم برها وطاعتها؟!!! كيف لهم ألا يقفوا في وجهها معترضين، كيف لهم موافقتها على أذى الآخرين ومسايرة الشياطين، هنا تكمن الموازنة.

أن تكوني امرأة على هامش الحياة، امرأة صفرا على يسار كل الأرقام، امرأة  غلف أفقها الضباب ففقدت القدرة على الرؤية والتمييز، امرأة أهملت كل خصالها وقدراتها المودوعة في باطنها، امرأة تقتات من السطح وتعيش عليه ولم تدرك يوما جوهرها والأعماق، امرأة تائهة بين الواقع والأحلام، وفجأة وبدون تخطيط تزوجت فأصبحت زوجة وأماً لأبناء، كيف لأم غير ناضجة أن تصبح مسؤولة عن أرواح أبنائها وتنشئتهم، كيف لها أن تحتوي ذواتهم البريئة وهي التي لم تلتق بذاتها بعد، فتتخبط في التربية وتغفل عن الأصول والواجبات والدين والأسس، ثم تطلب منهم البر والصلاح والعطف والإصلاح، وهي التي لم تصلح يومًا سلوكا أعوج، فلم تكن يوما بارة بهم ولم تعدل ولم تنصح، بل مارست شتى أنواع العنف اللفظي والجسدي، فأورثتهم عقوقها وتشربوا منها الأذى فسكبوه عليها حميما وعذابا أليم، فكيف إذا كانت الأم عاقة وظالمة بقصد أو بدون قصد، كيف لفلذات كبدها برها وإحسانها  وطاعة الله فيها، وهم الذين لم يروا منها إحساناً، فأرهقتهم من أمرهم عسرا، كيف لهم الطاعة والحسنى، وهم الذين مُلئت صدورهم بالأسى وفاضت حناجرهم بأفٍ وكفى، هنا تكمن الموارنة، وهنا يكون الامتحان.

الأم هي الأصل والروح والدم، وبرها أعظم الطاعات وقرينة توحيد الله والبراءة من كل شرك به، وبرها ليس قدرا اختياريا للأبناء حسب مسيرة حياتهم وظروفهم التي مروا بها معها، بل هو أمر حتمي ليس له صلة بهوية الأم ولا بدينها ولا سلوكها، لذلك كان لبرها عظيم الأثر والفضل عند الله، حقيقةً: ليس كل الأمهات رائعات، وليس كل الأمهات صالحات، ولكن لكل الأمهات الحق التام في البر والإحسان، وحسن الصحبة ولين المعشر والإكرام، والدعاء لهن بالرحمة والهداية والغفران، فهي صلة متينة برب العالمين وجهاد عظيم للنفس، لا تقوم به فقط لأنك تعشق التراب الذي تمشي عليه أمك، إنما تقوم به حبا خالصا لوجه الله الكريم، هكذا يكون البر نقيا، ليس عادة وتقليدا، ليس لأن أمك لا مثيل لها، ليس لأن أمك رائعة، بل لأن بر الوالدين ربح في الدنيا والآخرة.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك