الطائيون القضاة الشعراء (8)

قراءة في سيرة الشيخ القاضي هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (3)

ناصر أبوعون

nasser@alroya.net

رغم الخطوب الجسام التي ألّمت بالشيخ الشاعر هاشم الطائي إلا أنه كان يستظهر على المحن بقُراب الصبر، ويقمع الفتن بسيف الإيمان، ويُعرِض بوجهه عن شياطين الإنس، ويدحض وساوس الأبالسة بالمداومة على الذكر والخلوة الروحية؛ فقد حكى عنه أولاده أنه كان يعتكف في نهار رمضان بمسجد (الميابين) ما بين الظهر والمغرب لا يبرح محرابه، ولا يفتُر عن أوراده إلا لوضوء أو صلاة؛ ويخلع نعليه: (النفس والدنيا)، ويفرغ ما في جيوبه من مال ويدسها تحت سجادة الصلاة تحت رجليه؛ ليأخذ الأولاد منها حاجة دنياهم الفانية دون أن يقطعوا عليه طريقه إلى الله.

لقد كان الشيخ يضرب على نفسه خيمة التسامح؛ لا تهزّ أوتادها ريح الضغائن، ولا تزلزل عُمُدُها أعاصير المحن، ويتكيء على تقواه، ويتعكَّز على عصا الإحسان، ويهشُّ بها على أحزانه التي توطنت في مراعي سويداء صدره، ويصطبرعلى مفارقة ثلاثة من فلذات كبده؛ اقتطعتهم فتن الحياة من لحم قلبه؛ فما أجَلَّ أن ينتصر الإنسان على جراحه، وما أجمل أن يعتمر بعمامة (الصفح الجميل)؛ (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ)، وكما جاء في الحديث: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)؛ فما أعظم الشيخ هاشم وهو القاضي بشرع الله الذي آس بين الناس في ساحة القضاء عندما عفا عن صاحب السيارة الذي دهس ابنته فقضت شهيدة في طفولتها؛ مع يقينه الشرعيّ بأن (دِيَّة القتل الخطأ لا تسقط وإن كان القتيل هو المُخطئ، فالدية واجبة شرعًا على القاتل، يؤديها لأهل القتيل)؛ وهذا ليس بخافٍ على أحد ممن عاصره؛ فقد ولج الشيخ القاضي إلى باب التُّقى منذ نعومة أظفاره، ولزم ثغر مجاهدة هوى النفس وزخرف الدنيا، وهما فرجتان من مداخل الشيطان يوتغان المرء في مهالك الدنيا، وقليل من نجا، وكثير كبت به الأهواء؛ غير أن الشيخ كان رابط الجأش؛ فلم تتفلّت نفسه من عقالها المعقود بقبضة يده على جمرة دينه المتوهجة، وصَغُرَ الشيطان تحت أقدام مجاهدته؛ واكتوى بسياط لسانه الرطب بذكر الله، وأزال حجاب الغفلة، ومزّق أستار الشهوة، وداس الأبّهة وشحّ بنفسه عن الوقوع في غير الحِلّ، وفكّ عقد الأحقاد بحسن السيرة مع شيوخه وطلابه.

قد حكى بعض من خالطوه واستأنسوا بمسامرته ولازموه في ترحاله وسفره، أنه ملك زمام (علم تعبير الرؤى) استنادا إلى القرآن والسّنة، ومن عاداته التي حرص منذ شبيبته مداومة دخوله إلى (الخلوة الروحية) في غرفة خاصة للتعبّد والقراءة وكان لا يغادرها لليالٍ وأيام إلا لصلاة الجماعة، وقد ظهرت له كرامات، واستضوأ بأنواره مَنْ صاحبوه من أهله وخاصته واستبشر بالخير من لازمَ معيته ليقينه باستجابة دعوته؛ فقد روى الشيخ الداعية محمد بن سيف الرواحي- حفظه الله- في حديث مع الفاضل إبراهيم بن أحمد بن صالح الطائي بأن "الشيخ هاشم- رحمه الله - دخل في رياضة باسم الله "العليم" ففتح الله له من كنوز العلم، ورزقه ملكة الحفظ".

وكان الشيخ القاضي يأنس لمصاحبة الأخيار من ذوي الهمم الكِبار، داخل عُمان وخارجها لا يلوي على شيء غير المؤانسة والمرابطة على الدين، وإسداء النصيحة للقابضين على جمر العروبة وأولياء الأمر في جماعة المسلمين لا تأسره الدنيا بإستبرقها، ولايختال باتصاله بأصحاب المناصب وزخرفها؛ فلما قضى الله له أداء فريضة الحج عام واحد وسبعين بعد تسعمائة وألف للميلاد، ووانتهى من المناسك وتحلّل من الإحرام؛ ذهب بمعية الشيخ القاضي العلامة إبراهيم بن سعيد العبري إلى قصر الشهيد – بإذن الله تعالى - الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود فأحسن الضيافة لهما وأبدى البشاشة في وجهيهما واستأنس بوصل وُدِّهِما، وأعطى أذنه وقلبه لمشورتهما بعد أن استنصح بهما.

وبعد أربع سنوات وفي يوم14  من مارس 1975 ارتقت روح الشيخ العلامة إبراهيم بن سعيد العبري إلى بارئها، واستردَّ الله وديعته، فحزن الشيخ هاشم لمفارقته؛ فقد كان شقيق قلبه، ونديم طريقه، ورفيق دربه، لا تفصم بينهما السُّبل المتفرقة، ولا تمزّق وصلهما الأزمان المتباعدة، ولا تقطع حبل الوداد بينهما الخطوب المتوافدة؛ فبكاه برائية شهيرة أولها حكمة عالية، وأوسطها قطوف دانية، وآخرها أوصاف بلاغية ظلالها وارفة يقول في مطلعها:

(كأس المنون على الأنام تدور //  والكل منِّا للإله يحور)

(واحذر توافيك المنية بغتة // واعلم بأنَّ الدائرات تدور)

فلمّا دخل إلى محراب صفات العبري وضع سنّ ريشته في دواة قلبه الباكية، واستملأ حبرها من دموع عينه الدامية، وخطّ بيمينه أحزان فراقه السامية، ورسم صورته في مرآة المنادمة الصافية وصاغ محاسنه المتعالية، وامتدح علمه وشمائله، وسقى السامعين من فيض بلاغته، فقال واصفا معالم شخصيته الأدبية وسماته العلمية:

(بحر الندى شمس الهدى بدر الدجى // ليث الوغى علامة نحرير)

(حاز الخطابة والكتابة والندى // حلو الشمائل ماجد وهصور)

(فهو المجيد إذا تكلّم سائل // ليراعه عند الجواب صرير)

(يرقى المنابر خاطبا فكأنه // بدر تجلى والأنام حضور)

ولأن الشيخ هاشم الطائي ملك ناصية القضاء بين الناس من طرف وأمسك بالطرف الآخر مصباح العلوم؛ فقد استكفى أمر نفسه وألزمها بحفظ المتون في أصول الفقه والأحكام، وقد حُكي عن براعته في غير موضع بأنه كان من حفظة (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام) للشيخ العلامة الإمام نور الدين عبد لله بن حميد السالمي؛ فأودع في صدره أربعة عشر ألف بيت منظومة في سلك واحد جمعت جواهر (العقيدة والفقه والآداب وغيرها)، وله تقريظ شائق على كتاب (عقود العقيان) للعلامة (عبد الله بن سيف بن محمد بن خلفان الكندي)؛ تلميذ شيخه، ورفيق دربه (إبراهيم بن سعيد العبري) وقد حفظه الشيخ هاشم ووعاه، واستمسك علومه في لوح قريحته فأملاه، وشدا به في مجالسه، ودرّسه لطلابه مستظهرا أبياته من صدره، فإذا ما طالع القاريء الحصيف تقريظ الشيخ لـ(عقود العقيان)  لهاله بلاغة النصيحة، وشدّه استعراض محتوى الكتاب في عبارة ضيقة ومعانٍ واسعة، وحكمة بالغة بادئا بها مفتتح المنظومة قائلا:

(لازم الدرس والعلم دوما جاهدا // تحظَ غدا بالفوز والرضوان)

(فالعلم نور للفتى ومهابة // والجهل مدعاة لكل هوان)

(ذو العلم يربح في متاجرة العلى // وأخو الجهالة باء بالخسران)

(وإذا أردت بأن تكون مظفرا // فادرس عقود الدر والعقيان)

(نظم يجير العقل سحر بيانه // عقد زها بالدرّ والمرجان)

وقد نقل عنه بعض تلاميذه قولته الشهيرة: (لو جلستُ بين أيديكم ثلاثة أيام بلياليها أتلو ما حفظ قلبي، ووعى عقلي، واستذكرته حافظتي من المتون المنظومة، والأبيات المأثورة ما تعثّر بياني، ولا فَتُرَ لساني).

وقد روى الفاضل إبراهيم بن أحمد بن صالح الطائي من ولاية سمائل ما قاله إمام السنة والأصول الشيخ العلامة سعيد بن مبروك القنوبي- حفظه الله- عن الشيح هاشم؛ ذاكرًا أنّ: "الشيخ هاشم كان آيةً في الحفظ؛ فقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت من أشعار العرب، جميعها تبدأ بحرف الألف".

ومن علامات براعة الشيخ هاشم في الارتجال الشعري نسوق هنا قصة قديمة عاصرها الشيخ محمد بن حمود الوهيبي من سداب؛ فقد ذكر أن في "سداب" بئر تسمى (بريجة) أو (بريقة) يستقي منها جميع الساكنين لشربهم وتقع ما بين (عقبة حرامل) و(عقبة سداب) وذات يوم زارنا عدد من قضاة محكمة مسقط الشرعية وهم: الشيخ هاشم بن عيسى الطائي والشيخ سعيد بن أحمد الكندي وبرفقتهم الشيخ عبد الله بن هاشل الجرداني وطلبوا ماء للشرب فأحضرت لهم (جحلة) فلمّا شرب الشيخ هاشم (نهلا)، واستطاب الماء (علا)، سألنا عن مصدره، فقلنا من بئر تسمى (برًيجة) فقال: (هذه البئر تستحق أن يقال فيها شعرا)، فبادره الشيخ سعيد بن أحمد الكندي: ابدأ أنتَ؛ فارتجلَ الشيخ هاشم بن عيسى الطائي قائلا: 

(و[بريقة] فاقت على كل شربة // وأدرت على ماء الفرات ودجلة)

فاتبعه الشيخ سعيد بن أحمد الكندي ناظما:

(هي السلسبيل العذب لو أن جنة // على الأرض قلنا ماؤها ماء جنة)

ثم تبعهم الشيخ عبد الله بن هاشل الجرداني مطرزا:

(عليك بها فاشرب لمائها به ترتوي //  به تشتفي من كل داء وعلة)

وفي جانب آخر من شخصية الشيخ هاشم توطنت روح الدعابة التي لازمته منذ مطلع الصبا في غير تهتكٍ أو إسقاط للهيبة والوقار؛ فقد كان مزاحه يدخل السرور على القلوب الواجفة من خشية ربّها فيربت على أكتافها، ويُلبس الدهشة على الوجوه الجامدة؛ فيفك أساريرها المعقودة برابط الجِدّ والحزم فتنبسط بشاشتها؛ ويحكى عنه أن بلدية مسقط أرادت هدم بيته لتوسعة الطريق، ونزع ملكيته للمصلحة العامة وتعويضه؛ فقال للمسؤولين: على الرحب والسعة، تفضلوا فاهدموه، ولكن على شرط واحد؛ وهو الإبقاء على غرفتي الخاصة في الدور الثاني. وفي موقف آخر وبمحاضرة دينية لسماحة المفتي الشيخ أحمد الخليلي؛ قام الشيخ هاشم فأغلق نوافذ المجلس؛ فلما سألوه عن الغاية من وراء هذا الفعل غير المبرر؛ قال لهم: حتى نقبض على أفكار الشيخ الخليلي فلا تفرّ ونستأثر بعلومه قبل أن تطير.

ومن المواقف العلمية المأثورة في هذا الزمان ما بين الشيوخ الأعلام الثلاثة؛ (الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري (المفتي السابق)، والشيخ القاضي هاشم الطائي وسماحة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، ما رواه الشيخ أحمد بن ناصر السلامي، يقول: حدثت وفاة فلما جيء بالجنازة في (المدبغة) قرب باب (المثاعيب)، وكان أشياخنا الثلاثة حاضرين؛ وأثناء الدفن اختلى الشيخان (إبراهيم العبري وهاشم الطائي) في ناحية يتحدثان، وكان الشيخ أحمد الخليلي قريبا منهما، وبفطنة الشيخ العبري عرف بأن الشيخ أحمد يودّ منها الصمت فبادره قائلا: (وقيل من بعد الصلاة جازَ)، فردَّ عليه الشيخ الخليلي: (وذاكر الله كثيرا فازَ).

فأحمد الشيخ هاشم الطائي عاقبة أمره؛ وحاز جِمَاع الفُتاوى، وقارب بين المذاهب، ووضع النقل والعقل في كِفَّة واحدة لا يفرّق بينهما، واسترعى أحوال الناس، ومتغيرات العصر فكان باشّ الوجه، طيب المعشر، ونقي السريرة في غير تفريط في أحكام الشرع وأصوله، خاشعا بين يدي ربه، لا يَمُنّ في صلاته لا بالمُطيل فينفر ذو الحاجة والمريض ولا عُرف عنه المُسَارعة والتقصير.