الوزير وأوراقه!

علي بن سالم كفيتان

ظهر على المشهد هذا النوع من الوزراء مُؤخرًا، وهذا ليس حكرًا على بلادنا؛ بل أصبح ظاهرةً شملت بعض جوارنا الإقليمي؛ حيث تجد الرجل متحصنًا في وزارته على كومة أوراق ويستدعي طوال النهار مستشارين أو مديري عموم، وكل واحد من هؤلاء يضع حمولته القرطاسية الثقيلة على طاولة معاليه المزدحمة بالخطط والاستراتيجيات والرؤى، وعلى هذا الرجل الوحيد في هذا الحصن أن يتعامل مع هذا الكم الهائل من الأرواق والأفكار، بينما تتقاطر عليه سكرتاريته مذكرةً بمواعيد الاجتماعات واللقاءات المعتمدة سلفًا مع معاليه، ويصيح هاتفه النقال باستمرار عبر جرس التنبيه لجلسات المجاملة العامة للأعراس وحفلات العشاء والسفرات العابرة للقارات، كل هذا الزخم يأخذ معاليه بعيدًا عن المواطن العادي ويجعله مخلوقًا من كوكب آخر لا يعير اهتمامًا لذلك الإنسان الذي تقطعت به السبل على باب مكتبه أو عند موقف سيارته الفارهة.

يقول أحدهم لي: منحتني الأيام فرصة للقاء أحد أصحاب المعالي، ولم أكن أتوقع هذا الاستقبال مُطلقًا، فبينما كنت منتظرًا لبضع ساعات، كان المكتب مثل خلية النحل، ناس داخلة وناس خارجة، والجميع يحمل الأوراق في ملفات بكل ألوان الطيف، تحسست خنجري فأرخيته قليلاً، من واقع أن الانتظار سيطول، وحسنًا فعلت. وبعد مرور وقت وجدتُ من المناسب أن أحلها وأضعها على جنب مستمتعًا بالمشهد المذهل الذي يحدث أمامي؛ فالكل يردد "معاليه مستعجل.. معاليه معه اجتماع مجلس وزراء... معاليه لديه اجتماع مجلس مناقصات... إلخ"، فقلتُ في نفسي الانسحاب سيكون خيارًا سيئًا بعد طول انتظار ولابُد من الصمود. ولا أخفيكم أنني شربت الكثير من القهوة والحلوى، فكل ما دخل الساقي بدلته والحامل بجرته مرّ عليّ أنا وأحد الشياب المنتظرين معي للمُقابلة، وأخذنا نصيبنا، فقال لي ذلك الرجل السبعيني سائلا: أنت من هين؟ قلت له من ظفار فردَّ عليّ وهو يحرك رأسه... ونعم بكل أهل ظفار، فأجبته: ما عليك زود يا عمّ وانعم بأصلك. ودخلنا في حوار أنسانا ربشة معاليه، ولا نكاد ننتبه إلا مع الدلة وقصعة الحلوى العُمانية اللذيذة التي تطوف بين مكتب معاليه والمطبخ بشكل منتظم. فقال لي الشايب في جوٍ من الفكاهة: كم تتوقع معاليه يشرب كوب قهوة في اليوم؟ قلت له الله يعينه على هذه المسؤولية الجسيمة، وبينما نحن كذلك جاء المُنسق مسرعًا ووقف أمامنا كالطود الشامخ، وقال معاليه بيستقبلكم معًا ولخمس دقائق فقط لا غير، ومن شدة العجلة نسيتُ الخنجر على الكنبة ودخلت خلف الشايب، بدا لي الرجل مُنهكًا، فعمامته باتت على مؤخرة رأسه. وبعد السلام قال معاليه مذكراً: "تصدقوا بعدني ما صليت الظهر"، ردَّ عليه الشايب "زين لو نصلي جماعة.. صلينا الضحى معكم وبعدنا على وضوء"، فانحرج معاليه قليلاً وحكَّ مؤخرة رأسه، وقال للشايب تفضل، فسرد الرجل حكايته، بينما معاليه يحرك يده ويحك أنفه ويرفس برجليه تحت الطاولة، لكن الشايب ما تزحزح عن نقل كل ما يُريد وفي كل مرة يقول له: "حلمك علينا ولدي". وفي الختام طلب معاليه عبر الهاتف كومة أوراق جديدة عن موضوع الشايب فحضرت في لمح البصر، اطلع عليها معاليه من تحت نظارته، وقال: "إنتو ما يحق لكم حسب القانون"!!

نهض الوزير لكي ينهي الحوار ورفض الشايب النهوض من مكانه، وقال "ما نطلع غير تلبي مطلبنا"، وهنا تضامنت مع الشايب، ولم أحرك ساكنًا، فبينما معاليه واقفًا ظلينا نحن جالسين، وهنا قلت "معاليك.. ما نسيت شيء؟"، ردَّ عليّ مستنكرًا "أيش اللي نسيته"، فذكرته بالقهوة وقصعة الحلوى، وهنا اعتذر الرجل وطلب الواجب، وأخذ الشايب نصيبه منها، وأنا كذلك، بينما معاليه على أطراف أصابعه يعبث ببعض الأوراق وينظر في بعض الخرائط، فاستأذن الشايب وطلع، بينما انتظرتُ أن يسمح لي ببدء الكلام، فقد كان معاليه منهمكًا في أوراقه، ويتصل مرة بهذا ومرة بذاك. وفي الأخير قال لي "تفضل"، وهنا قصصتُ عليه ما عندي بشكل عاجل، فقال لي "عندك رسالة هاتها، وبإذن الله يردوا عليك الجماعة في المُحافظة". فسلمته الورقة الممهورة بتوقيعي فدسها فورًا في ملف أحمر، وقام ومدَّ يده مودعًا، فودعته ومضيت إلى الخارج، ولم انتبه إلا والمنسق يعطيني الخنجر فشكرته وانصرفت!