نخوة السعودي وشهامة العماني

 

عبدالله الفارسي

كنتُ قد أعددت قصة مُؤلمة عن أحد المُسرحين الذين يعانون بشدة، وقد طبختها وحشوتها بالمكسرات الدسمة والبهارات الحارقة؛ فعرضتها كعادتي على صديقي، لكن صديقي قال لي واعظًا وناصحًا: "أبعد عن هذه المواضيع المُؤلمة يا أبا يزيد يكفينا أوجاعاً ومآسي وارح رأسك وانفذ بجلدك وتمتع بالجزء الضئيل المُتوافر من حريتك واستمتع ببواكير شيخوختك التي بدأت تلوح في الأفق"!

لذلك غيرتُ رأيي!

فتذكرت هذه القصة الجميلة الرشيقة فقررت أن أنسجها وأنقشها لكم وأرويها على مسامعكم حتى أبعدكم قليلاً عن مصائبكم... حدثني أحد الرجال الصادقين بقصة سمعها من صاحبها وهو في وسط الديار المًقدسة. يقول الرجل: إنِّه ذات عصر شديد البرودة من شتاء العام 2012 كانت حافلة مُعتمرين عُمانية متجهة إلى مكة المكرمة وبعد خروجها من مدينة بريدة السعودية بعشرات الأمتار تعطلت الحافلة فجأة وأبت أن تتحرك، وكان بالحافلة 44 راكباً من الرجال والنساء والأطفال. ونزل سائق الحافلة من حافلته وكان شاباً قليل الخبرة لم يسبق له أن تعرَّض لمثل هذه المواقف. وأضاء الإشارات التحذيرية الأربع، ووقف على الشارع يطلب النجدة والمساعدة ويقفز كبهلوان سرك محترف لكل سيارة تقطع الشارع.

يقول السائق إنه خلال ساعة تقريبًا عبرت من أمامه ثماني حافلات عُمانية، ولم يقف له أحد منهم رغم أنَّه كان يقفز لهم في الهواء رافعًا عمامته ملوحًا بيده طالبًا توقفهم، فلم يقف له أحد من الرجال العُمانيين الطيبين الدمثين الكرماء!

يضيف الرجل: شعرت بغضب شديد وحزن أليم والتهب صدري كظمًا وغيظًا واشتعل قلبي حنقًا وحريقًا.

ماذا سأفعل وأنا لوحدي ومعي 44 راكبًا، والليل على وشك الهطول وبرد مدينة "بريدة" يُضرب به المثل، وتتناقل أخباره الركبان منذ قديم الزمان!

يقول الرجل: جلست على رصيف الشارع كبدوي اقتلعت الريح خيمته، جلست بائسًا محبطًا يائسًا منتظرًا إحدى السيارات أو الباصات العُمانية، وفجأة توقفت سيارة بيضاء بعيدًا مني على بعد 200 متر تقريبًا وكأنها نزلت من السماء، لم أرها تعبر من أمامي رغم تركيزي الشديد على الشارع. كانت سيارة من نوع تويوتا بيكاب هيلوكس حديثة الطراز. توقفت لثوانٍ ثم استدارت نحوي فنزل منها رجل أبيض يميل إلى السمار، مُتلفع بغترة حمراء ناصعة النظافة تغطي نصف وجه السفلي ويظهر نصف وجهه الأعلى فقط يحمل عينين واسعتين مشعتين براقتين كعيني صقر نادر لا يُمكن أن أنسى بريق تلكم العينيين ما حييت. كان الرجل في منتصف الأربعينات من عمره تقريبًا.. سلم عليَّ وصافحني بيد صلبة عريضة التهمت يدي اليمنى وعصرتها كليمونة صغيرة وقال لي: سلامات أيُّها العُماني عسى ما شر! فقلت له: حافلتنا كما ترى توقفت فجأة ولا نعرف المشكلة ولا أعرف ماذا أفعل الآن.

يقول الراوي: رأيتُ الرجل يخرج هاتفه من جيبه ويبتعد عني بضعة أمتار وأخذ يتكلم ويتحادث في مُكالمة هاتفية قصيرة ولم أسمع ماذا قال ولم أعرف مع من كان يتحدث، ثم قال لي: أدخل في حافلتك تجنباً للبرد. ووقف هو منتظرًا أمام سيارته!

يقول: بعد 10 دقائق أو أكثر قليلًا من اتصاله رأيت حافلتين تويوتا صغيرتين من فئة 16 راكب وسيارة فان شفروليه تتوقفان بجانب حافلتي، وبعدها بدقائق جاءت رافعة كبيرة. قال لي الرجل: انزل ركابك في الحافلتين والبقية دعهم يركبون في السيارة الفان وأنت تعال معي.

حقيقة ذُهلتُ من تصرفه ولم أُحر جوابًا ولم أستطع قول أي شيء سوى الركض إلى الحافلة وإنزال الجميع منها وإخبارهم بركوب الحافلتين. أنزلنا النساء والأطفال من الحافلة وأركبناهم الحافلة الصغيرة والرجال ركبوا في الحافلة الأخرى وبقينا خمسة أشخاص الأربعة ركبوا في السيارة الشفروليه. أما أنا فركبت مع الرجل الذي لم أعرف اسمه حتى اللحظة ولا أعرف ماذا أقول له.. ولم أتمكن من النظر إليه فقد كنت خائفاً من نظرات عينيه الثاقبتين البراقتين.

سُحبت الحافلة بواسطة الرافعة إلى ورشة كبيرة في مدينة بريدة، أما ركابي فلا أعرف أين أخذتهم الحافلات.

تبعنا الرافعة التي سحبت الحافلة. كنت صامتا قلقا ومتوجسا فاجأني الرجل بسؤال مُباغت: لما أنت قلق بهذا الشكل يا رجل؟! فقلت له بكل براءة: "بصراحة أنا أخاف من السعوديين"!

فابتسم الرجل ونظر إليَّ نظرة ثاقبة، رأيت فيها بريقًا لامعًا يشع من عينيه كأنها نجم بعيد يُرسل بريقًا من السماء. فطبطب على كتفي بكل حنان وقال: "لا تقلق أيها الرجل ففي الجزيرة العربية يسكن الخير وتنبت الفضيلة وتترعرع النخوة وتهطل الشهامة". ثم غرقنا في صمت طويل حتى توقفت الرافعة على مدخل إحدى الورش.

نزل الرجل ونزلت خلفه وأخذ يتحدث مع الميكانيكي وسمعته يطلب منه أن يترك كل ما في يده ويُباشر في إصلاح الحافلة فورا ثم أعطاه رقم هاتفه.

بعدها ركبنا سيارته البيكاب الهيلوكس وانطلق بي إلى أن وصلنا إلى مكان شبيه بالمزرعة وبداخلها استراحتين سكنيتين متقابلتين كل استراحة بحجم فيلا صغيرة. وكانت الحافلتان الصغيرتان والسيارة الفان متوقفات أمام الاستراحتين تنتظرنا فشعرت باطمئنان كبير وتنفست الصعداء.

قال لي الرجل: دع النساء يدخلن في تلك الاستراحة والرجال في الاستراحة الأخرى. وسأعود إليك بعد دقائق. نزلت من سيارته وأنا ما زلت مذهولا من الرجل وتصرفه معي ومازال فمي مغلقا لم يتمكن من إخراج كلمة واحدة.

 من أين جاءني هذا الرجل ذو العينين اللامعتين ومن أي السماوات السبع نزل؟ بعد دقائق ارتفع آذان المغرب في الأرجاء فأضفى أمانًا في القلوب وسكب اطمئنانًا على الأرواح والأفئدة.

وبعد صلاة المغرب بلحظات سمعت الرجل يطرق الباب علينا. ويأمر مجموعة من الشباب يحملون صحوناً كبيرة وصناديق مياه بتوزيعها على الاستراحتين. ادخلت مجموعة من الصحون في غرفة الرجال، ووضعت مجموعة من الصحون أمام باب استراحة النساء.

ثم قال لي: خذ رقم هاتفي إذا احتجتم أي شيء اتصل بي، الحافلة ستحتاج إلى وقت طويل ولن تنتهي عملية إصلاحها قبل الغد. فسجلت رقمه هاتفه. وبعدها بلحظات دخلت شاحنة من فئة 2 طن وبها مجموعة كبيرة من المفارش والبطانيات والمخدات، ونزل منها عمال ثلاثة قاموا بتوزيعها على الاستراحتين. ووقفت اتصارع مع دهشتي واتعارك مع استغرابي وأحاول أن أفك القفل الذي يطبق على فمي وأن أشكر هذا الرجل قبل أن يذهب ولكن للأسف فمي زاد إطباقاً وانغلاقاً ولم ينطق ببنت شفة.

غادرت الشاحنة بعد أن أفرغت كل ما كانت تحمله من المفارش والبطانيات، وخرجت من المزرعة. ناداني ذلك الرجل العجيب المُثير وقال لي: المكان آمن وهناك حارس في المزرعة ارتاحوا كأنكم في بيوتكم وإذا احتجتم أي شيء اتصل بي مباشرة. ثم خرج خلف الشاحنة مباشرة وقام عامل المزرعة بإغلاق البوابة الحديدية. وفتحنا الصحون وكانت مليئة باللحم والرز والخبز والفاكهة. وأكلنا وشبعنا وشربنا واحتسينا شاينا وقهوتنا.. ونمنا بعدها نومة عميقة هنيئة.

وبعد صلاة الفجر بساعة رأيتُ الرجل يدخل بسيارته المزرعة وينادي على عامل المزرعة ليُساعده على إنزال صحون الفطور الكثيرة ودِلال القهوة والشاي. قلت في نفسي سأدفع له كل ريال صرفه علينا هذا أقل ما يمكنني فعله لهذا الرجل الكريم. وبعد الفطور اتصلت به فقال لي: ساحضر لاصطحابك إلى الورشة بعد ساعة أو ساعتين، سأنجز بعض الأعمال وأوافيك. وبعد ساعتين أو أقل جاء الرجل إلى الاستراحة، وانطلقنا إلى الورشة لنرى إلى أين وصل إصلاح الحافلة. وفوجئت بأنَّ العطل كان كبيرًا وأن هناك قطعة لابُد من استبدالها وقد ذهب أحد الميكانيكيين للبحث عنها في المنطقة الصناعية.

فتحدثنا مع العامل الآخر، فقال لنا: لا اظن أن الحافلة ستكون جاهزة قبل الساعة الثالثة عصرًا.

وقال لي الرجل السعودي المثير: "هانت يا رجل كلها بضع ساعات وتجهز حافلتكم يجب إصلاحها بشكل كامل وفحصها بصورة دقيقة فطريقكم طويل جدا فلا تقلق ستكون جاهزة في الساعة الثالثة هذه أفضل ورشة في منطقتنا".

أخذني في جولة قصيرة في مدينة بريدة وعرفني على اسمه وأخذنا نتبادل أطراف الحديث وبدأ فمي يتحرك ويخرج بعض كلمات الشكر والثناء لهذا الرجل الطيب ولكنني لم أتمكن من النظر والتركيز على عينيه. ثم أوصلني إلى الاستراحة وقال لي: سأعود لاصطحابك فور أن تجهز الحافلة، وإذا احتجت أي شيء فاتصل بي دون تردد.

وبعد صلاة الظهر رأيت الرجل وأولاده ينزلون صحوناً كبيرة مليئة باللحوم والدجاج والرز البخاري اللذيذ، ودلال الشاي الأحمر، فاحمَّر وجهي خجلا من صنيع الرجل وكرمه وعاد فمي إلى وضعية الخمود والجمود السابقة.

وفي الساعة الثانية والنصف جاءني الرجل ليبشرني بأن الحافلة جاهزة تماماً وفي أفضل حالاتها فنشرت الخبر على الجميع ليحمدوا ربهم ويدعوا لهذا الرجل الذي نزل علينا من السماء وأنقذنا من ورطة كأداء كلحاء.

وحين وصلنا الورشة رأيت الحافلة متوقفة في الخارج وفي وضعية التشغيل فشعرت بسعادة غامرة أغرقت كل جوانحي وأنعشت روحي. فدخلت الورشة لدفع تكاليف التصليح فقال لي العامل وكان يمني الجنسية: الحساب مدفوع كاملا من اللحظة الأولى التي وصلت فيه حافلتك هنا!

عاتبت الرجل على كل هذا الكرم العظيم ولكنه قال لي: يا رجل لو كنت في مكاني لفعلت مثلي هذا واجبنا فأنتم ضيوف الرحمن. اذهب الآن إلى جماعتك، وتوكلوا على الله واكملوا طريقكم إلى مكة وادعوا الله لنا بالقبول والرضا وأن يتقبل الله منّا ومنكم صالح الأعمال وحسن النوايا. وتركني وذهب إلى حال سبيله واختفى من أمامي فجأة كما ظهر أوَّل مرة.

ذهبت بحافلتي إلى المزرعة وحملت الركاب وودعت عامل المزرعة الطيب وتوجهت إلى مكة المكرمة وأتمننا عمرتنا وعدنا سالمين فائزين غانمين إلى وطننا.

يقول الرجل: ولكني لم أنسْ صنيع ذلك الرجل السعودي وظللت أفكر ليل نهار كيف يمكنني أن أرد له الجميل.. ظللت شهرين كاملين تلسعني فكرة رد الجميل لذلك الرجل وصنيعه العجيب معنا.

وفي بداية الصيف وفي موسم المانجو العُماني الطيب، عبأت عشرين صندوقاً من المانجو الطازجة الناضجة وأشتريت عشرين علبة حلوى من أفخر أنواع الحلوى العمانية، واشتريت له خنجرا عمانيا مزخرفا مرصعا بالفضة، وانطلقت إلى مدينة بريدة السعودية.

وحين وصلت إلى "بريدة" توجهت مباشرة إلى تلك المزرعة التي لا أنساها أبداً وتوقفت أمامها واتصلت بالرجل ذي العينين المشعتين البراقتين والقلب الأبيض الجميل ففرح بسماع صوتي.

فقلت له: أين أنت أنا هنا انتظرك أمام بوابة المزرعة، فجاء الرجل بعد نصف ساعة وعانقني بكل جمال ولهفة واشتياق. وقلت له: موقفك معي لا يمكن أن أنساه وهذه هدية بسيطة لا تساوي ربع ما قدمته لي فأرجو أن تقبلها مني.

ففرح الرجل بزيارتي أكثر من فرحته بهديتي وأجبرني على المكوث معه ثلاثة أيام أغرقني فيها من الكرم والطيب وأمطرني بالإحسان وأراني من دماثة الخلق مالم أره أو اقرأ عنه من قبل.

وهنا تأكدت بأن الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسوله الكريم إلى الجزيرة العربية إلا لأنه يعلم بأنَّ فيها من البشر من يحملون في دمائهم جينات الكرم والسخاء والنخوة والشهامة ما يؤهلهم ليكونوا خير أمم الأرض وأطيبها.

وفي الختام أقول: قفوا للناس في الطريق.. قدموا لهم المُساعدة.. استجيبوا لنداءات أياديهم حين يلوحون لكم.. واستمعوا لصراخ ألسنتهم حين يستغيثون بكم.

من المؤسف والمشين أن نُغادر الحياة دون قصة عطاء أو موقف شهامة وكرم وسخاء. خلدوا أفعالا جميلة وذكريات طيبة في حياتكم وقبل مماتكم. واحكوا قصصكم المثيرة لأبنائكم.

ازرعوا في قلوبهم حب الخير ومد يد العون.. وإغاثة الملهوف.. غادروا الحياة وفي صحائفكم أنوار ساطعة.. وأقمار متلالئة وشعاعات بارقة كعيني ذلك الرجل السعودي النادر.