في زمن ثورة العلم نسأل.. لماذا تقدموا وتأخرنا.. والخلق واحد!

 

 

د. رفعت سيد أحمد

في زمن الثورة العلمية التي تلف العالم أجمع وفي زمن الفكر التكفيري والإرهاب الملتحف زيفًا برداء الدين، طرحت العديد من التساؤلات عن الأسباب الكامنة وراء تخلفنا عن هذا (الغرب) الذي تقاتله وتكفره بعض الجماعات الإرهابية؟ لماذا تقدم رغم كفره، وتخلفنا رغم إيماننا المزعوم؟ وإلى متى تستمر هذه الجدلية؟

إن هذا الغرب الذي لا نرى في تعاملنا اليوم معه سوى الجانب الظالم خاصة فيما يتصل بقضايانا الرئيسة (مثل قضية فلسطين)، له جوانب أخرى تحتاج إلى إنصاف وعدل في النظر، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: "ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (آية 8 سورة المائدة). إن المساندة الغربية في المجمل للمشروع الصهيوني العدواني منذ النشأة (1948) وحتى اليوم ضد الحقوق العربية في فلسطين، والدعم المباشر لهذا (الغرب) للاستبداد والفساد في بلادنا عبر عقود، كل ذلك ظلم وعدوان بيَّن، لكنه ينبغي ألا يمنعنا من إعادة طرح السؤال، لماذا تقدم هذا الغرب في كافة مناحي الحياة وتخلفنا؟

إنِّه سؤال القرن الحالي والقرون السابقة له، وهو سؤال وهنا مناط الدهشة، طُرح قبل أكثر من مائتي عام مضت بعد الصدام التاريخي بين هذا الغرب وبلادنا (تحديدًا مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر 1798م)، وظلت تتجدد عملية طرحه، إلى زماننا هذا، ذلك الزمان الذي سادت فيه لغة "داعش" وفكرها، فأثار العداء على مجمل الكرة الأرضية ضد هذا الدين. وفي هذا السياق نتذكر مقالاً تاريخيًا (هو لدينا بمثابة وثيقة تاريخية بحق) نُشر قبل أكثر من 125 عامًا، وآثار جدلًا واسعًا وكان عنوانه يتصل بهذه القضية التي أعادت مواجع وإرهاب جماعات الإرهاب عملية طرحها مجدداً بهدف "الخلاص" والبحث عن تقدم إسلامي وعربي شبيه بالجانب المضيء من التقدم الغربي.

يُحدثنا التاريخ أنه في يوم الثلاثاء جمادى الأولى عام 1310هـ الموافق 29 نوفمبر 1892؛ أي منذ قرابة قرن وثلاثين عامًا كتب الأديب والسياسي والمجاهد/ عبدالله النديم مقالًا نظنه بكل ما حواه، ما زال صالحًا حتى اليوم، صالحًا لحالنا كأمة تاهت من أمام ناظريها معالم التقدم وسبل النهضة. لقد عنون النديم مقاله، بعنوان آسر هو "بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد"؟ كان سؤاله وقتها هو سؤال القرن ونظنه ما زال كذلك، فقط أضيف للقرن، قرن آخر، بكل حروبه وابتلاءاته ومصائره، وثوراته وتجاربه المرة والتي انتهت جميعاً، ويا للغرابة بنفس السؤال بعد مائة وثلاثين عاماً: لماذا تقدموا وتأخرنا؟ فقط أضيف إلى السؤال إجابات هي أقرب للأسئلة من قبيل: هل لخلل أصاب عقلنا كان هذا التخلف؟ أم لعلة نخرت في عظم ثقافتنا فاستعصت على العلاج؟! أم لثورات ربيع زائف ناقصة ومسروقة صنعها الشباب وسرقها العجزة والإرهابيون من جماعات الإخوان والقاعدة وداعش وأخواتهم؟ أم لأهواء سيطرت على بناة حضارتنا ونهضتنا فهوت بهم وبنا إلى قاع غير مُستقر من التخلف؟ ثمَّ ما التخلف الذي نعنيه؟ وما معاييره وملامحه؟ وما التقديم الذي ننشده وما هي أسسه؟ وهل بالضرورة أن يكون معياره الحاكم والرئيسي هو ما وصل إليه الغرب من تقدم مادي أم أنَّ السياقات الحضارية تختلف ومن ثم المقاييس حتماً تختلف؟ ومن أين نبدأ في البحث عن سر كل هذا التخلف والوهن والهوان الذي أصاب خير أمة أخرجت للنَّاس وخير ثورات عاشها جيلنا من 23 يوليو المصرية إلى ثورات الربيع العربي الزائف؟

أسئلة، حاول قبل قرن، أن يجيب عليها النديم، ومن قبله حاول جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، ومن بعده قاسم أمين وعبدالرحمن الكواكبي ولطفي السيد وصولًا إلى مالك بن نبي وعلى شريعتي وطارق البشري ومحمد عابد الجابري ومحمد شحرور ومحمد حسين فضل الله وجمال حمدان وغيرهم من مفكري الأمة وسياسييها الكبار، دون حسم أو تقدم فعلي في الاتجاه الصحيح للنَّهضة على أسس عربية إسلامية سليمة. الطريف أننا ما زلنا نطرح ذات الأسئلة، وما نزال نبحث عن إجاباتها بين دفتي الكتب، وبين سطور المِحَن والانكسارات والثورات المجهضة بسبب نخبتها الإسلامية أو العلمانية التي ما فتئت تذكرنا بسؤال النديم المركزي: بم تقدموا وتأخرنا والخلق واحد؟

لقد حاول النديم وقتها أن يُجيب وعزا أمر النهضة الأوروبية برمته إلى عشرة أسباب منها أربعة رئيسة وستة فرعية وهي على التوالي (القدرة على توحيد اللغة- توحيد السلطة- إبراز الدين في الحياة- التوحد ضد الأعداء الخارجين- إطلاق حرية الصحافة والرأي- الاهتمام بالصناعة الديمقراطية- تشجيع العلماء- الاهتمام بشؤون الثقافة).

ورأى النديم وقتها أنَّ هذه الأسباب بقدر ما كانت دوافع لتقدم أوروبا، كان فقدانها سبباً لتأخر المسلمين والعرب، ولنتأمل كلمة النديم في نهاية مقاله "التاريخي"، والتي أوجز فيها سبب العلة الكامنة في الأمة وقتها والتي أدت لتخلفها، ولنقس مقولته تلك على حالنا، ونسأل بعدها: هل ثمة خلاف قد وقع في "أصول تخلفنا" اليوم، عن ذلك التخلف الذي لازمنا إبان عصره قبل قرن وثلاثين عاماً مضت؟!

قول النديم "إن التأخر إنما جاء من تعميم الجهالة بإغضاء الملوك عن وسائل التعليم والتضييق على أرباب الأقلام والأفكار، وبُعد الأغنياء عن الجمعيات وتقاعدهم عن ضروب التجارة والصناعة والزراعة ورضاهم بالبقاء تحت أسر الشهوات، فإذا أطلق الملوك حرية الأفكار والمطبوعات، وبذل الأغنياء الذهب في حياة الصنعة، وتعميم المعارف في المدن والقرى ومساعدة العلماء على الرحلة خلف حياة العلم، واجتمعت كلمة الملوك والوزراء والأمم على السعي خلف التقدم، أمكنهم أن يوقفوا تيار أوروبا شيئاً فشيئاً حتى يضارعوها قوة وعلماءً، وإلا إذا تركوا هذه الأسباب وبقوا على ما هم فيه من التقاطع والتحاسد والجهالة كان من العبث تجمعهم في الأندية وتشدقهم بقول بعضهم لبعض : بم تقدم الأوروبيون وتأخرنا والخلق واحد".

هل اختلف الحال عام 1892 حين طرح فيه النديم السؤال، عن الحال الذي نطرحه اليوم عام 2022؟ في زمن انتشرت فيه جماعات متطرفة بفكرها الشاذ ودول في الشرق الإسلامي لا تكتفي بالعيش في التخلف؛ بل تستورده إن أمكنها، وتصدره إلى باقي عالمنا العربي باسم "الثورات" والربيع الزائف، كما جرى تحديدًا في العراق وسوريا وسيناء المصرية وليبيا!!

أسئلة نحسب أنَّ الإجابة القاطعة عليها تكون بالأخذ بمنهج النقد الذاتي وتجديد الفكر والخطاب الديني والسياسي بما يحترم العقل والإنسان ...والله أعلم.