نحو فكر للاعتدال يبدأ بتنقية الموروث

 

د. رفعت سيد أحمد

المُتأمل بعمق لبعض- طبعًا ليس كل- الموروث الفقهي والفكري في تاريخنا الإسلامي الذي يعد المرجعية الأساس للعديد من التنظيمات المتطرفة، سيكتشف أن تلك التنظيمات والتي أضرت بالإسلام أكثر مما أضر به أعداؤه، وأساءوا لقيمه السمحة أكثر مما أساء من يطلقون عليهم "العلمانيين الكفرة"، وهذا التاريخ بفقهه وفكره وموروثه الديني يحتاج بالفعل إلى فرز وتصحيح وتنقية، وإذا لم يتم ذلك، فستظل هكذا جماعات إرهابية تزداد انتشارًا وفجرًا وتجرؤًا على الإسلام وقيمه الخالدة، وستظل تقدم نفسها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد له، رغم أنه بنص قرآنه وبجوهر سيرة وسنة نبيه، بريءٌ مما يزعمون.

وحتى نُبيّن للأمة وللنخبة تحديدًا بداخلها خاصة نخبة العلماء والفقهاء المستنيرين مخاطر ما يحتويه ذلك الفكر والتاريخ المتطرف، نذكر بعض الوقائع المؤلمة التي جرت في التاريخ وكان دواعش الزمن الماضي هم من ارتكبها، ونحتاج اليوم إلى تأملٍ جديدٍ فيها لكي نقاومها ونقف بقوة ضد محاولات استرجاعها أو الاقتداء بها. وفيما يلي أذكرُ نماذج من التاريخ الموروث المرفوض.

يُحدثنا تاريخ الموروث المرفوض عقلًا وقرآنًا ومصلحةً، أن متطرفي الزمن الماضي هم الذين كفروا أطلقوا على الفيلسوف والعالم ابن سينا لقب إمام المُلحدين أو شيخ الملحدين، وكفّروا الرّازي الذي بدوره أعلن رفضه لأفكار متطرفي زمانه، وكان يسخر منهم في كلّ مجالسه؛ لأنهم تركوا العقل وتمسكوا بالتقليد والعنف، وأنّ التّوحيدي أحرق كتبه بنفسه بسبب القهر واليأس من المتطرفين، وليس المُعتدلين من رجال الدّين في عصره، وأنّ المعرّي فرض السّجن على نفسه لنفس الأسباب، وأنّ ابن المقفّع مات مقتولًا وهو لم يتجاوز الثّلاثينات من عمره بسبب دواعش زمانه من الفاهمين الدين خطأ. أما جماعة "إخوان الصّفاء" فكانوا لا يذكرون أسماءهم بسبب الخوف من إهدار المتطرفين الدواعش من رجال الدّين لدمائهم، وأنّ الغزالي الذي كفّر الفلاسفة تمّ تكفيره هو الآخر في عهود متأخرة من قبل متطرفين أكثر تطرفًا منه.

أما الإمام الطبري صاحب أشهر كتاب تفسير للقرآن، وصاحب الكتاب المعنون بـ"تاريخ كتبه المسلمون"، فلقد مات كمداً وقهراً بعد أن رجمه المتطرفون من الحنابلة والذين يشبهون متطرفي زماننا هذا، واتّهموه بالكفر والإلحاد بسبب اختلافه مع مذهب الإمام ابن حنبل. لقد رجموا منزله بالحجارة إلى درجة أنّ باب منزله لم يعد يُفتح بسبب أكوام الحجارة المتراكمة عليه.

وهم- متطرفو تلك الأزمنة- الذين قتلوا أيضًا ابن السهروردي وكفروا ابن الفارض والأصفهاني وابن حيان، وهم الذين قطعوا أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب، المشابه تمامًا لما تفعله تنظيمات الإرهاب في سوريا وليبيا والعراق ومصر. ونفس الأمر تمَّ مع الجعد بن درهم الذي مات مذبوحًا وفق الطريقة الداعشية المعاصرة. أما العالم والفيلسوف أحمد بن نصر فبعد ذبحه علقوا رأسه وداروا به في الأزقة. أما لسان الدين بن الخطيب فقد أحرقوا جثته.

هذه النماذج من التاريخ السري للفكر والممارسة المتطرفة في تاريخنا الإسلامي العظيم، آن لنا أن نكشفها ونتبرأ منها؛ لأنها تضر بالسياق التاريخي العظيم والمستنير للإسلام النقي، ولأن السكوت عليها يعني القبول الضمني بها، والسماح بتكرارها، والإسلام الحق والأزهر العظيم وعلماء الاعتدال الكبار في زماننا يرفضون ذلك ولا يقبلون به.

هذا الرفض ومن قبله الكشف عن تاريخ الفكر المتطرف المجرم، لا نبالغ إذا قلنا وأكدنا أنه البداية الصحيحة والثورية لتجديد الفكر والفقه والخطاب الديني الحق والذي تستحقه "خير أمة أخرجت للنَّاس"، ودون ذلك سنظل نتخبط في دهاليز الظلام الذي تنشره وتبذره التنظيمات الإرهابية.. والله أعلى وأعلم!