ذاكرة

 

طفول سالم

داعبتُ عدسة هاتفي من نافذة سيارة أخي أراقبُ النوارس وهي تحوم أحياناً وتحطُّ أحياناً وتجسُّ الطرقات القديمة لسوق مرباط القابعة قرب الحصن التاريخي، إنه الصباح الباكر حيث النسمات الباردة تتخلل وجهي وتداعب أنفاسي.

انتابتني أفكار وصور خيالية كثيرة قذفتها سوق الفرضة في عقلي وقلبي واستحضرت مشهد السوق قبل مئة عام حيث تتداخل غرغرات الإبل بأصوات الباعة والمتسوقين وتجولت في السوق شِبْراً شِبْراً ورأيت أنواع البضائع المعروضة في الدهاليز، ورأيت أشكال الرجال ذَوِي الشعور الطويلة والضفائر الذين أَتَوْا من الجبال؛ إِنَّ أجسادهم شِبْهَ العارية تتصبَّبُ عَرَقاً وهُمْ يحملون البضائع على الرُّكَّاب ويُنْشِدُون أناشيد حماسية ويربطون بضائعهم على الجِمَال.

لا أدري كيف أُصَوِّرُ رحلة سفري إلى الماضي وكيف أُعَبِّرُ عنها؛ هل ستكون قصةً قصيرةً أم مقالاً عتابيّاً لبعض الجهات المعنيَّة بالتراث والسياحة!!

آهٍ.. كم يتأخر عقلي أحياناً في بَثِّ الأفكار؛ أرجوك أيُّها العقل تفرَّغْ لي والتفِتْ لحظات! حائرةٌ أنا! لماذا أرى أنها على وَشَك الاندثار؟! على الرغم من أنَّ كل الزوايا وكل حجر وكل زقاق وكل دهليز وكل باب وكل مزلاج وكل نافذة تقول: أنقذوني! رَمِّمُوني! أَعِيدُوا لِيَ الحياة! رَحِمَكُمُ الله ارْحَمُونِي! فأنا على وَشَك الذبول! لقد صمدتُ كثيراً؛ أرجوكم أنقذوني!

حينها نزلت دموعي ثم ابتسمت ابتسامة الأسف.

تناولتُ هاتفي وطلبتُ من أخي أن يتوقف لأخذ بضع صور تذكار فقد لا يأتي الغدُ لألحق تلك الجدران الصامدة، على الرغم من عَبَثِ الرياح التي عزفت عليها لحناً بكائيّاً حزيناً، ونزلتْ عليها أوابل من الأمطار والأعاصير حتى ظلت ألواناً باهتةً قلقةً دثَّرَتْه القرون بغبارٍ رَثٍّ، لكنَّ مشاعر شوق جامحة تنتابك بين تلك السِّكَك إلى درجة الحيرة والذهول.

تَبّاً لتلك الوعود التي لا تتحقق وتَبّاً للسَّهم الذي لا يصيب. يمضي العمر وتمضي معه الذاكرة، وتبقى الرياح ترقص كرصاص في ضمائر فاقديها.

ما زال عقلي قاصرًا لا يزوِّدني بالأفكار الجميلة والمقنِعة، أُدْرِكُ تماماً حين يخرج من عُقْر قيوده كأنه يُوْلَدُ مع كل شروق شمس، وهَرِمَ أحياناً وهو لم يُوْلَدْ بتاتاً، أَعْتَبِرُ كل ما مضى تمهيداً لِمَا هو آتٍ، وإذا سقينا ماضينا بحاضرنا فسيبعث الأمل في عقولنا الحالمة بالصعود إلى المجرات البعيدة، وإِنْ تركْنَا وأَهْمَلْنا ومات، وأصبح ماضينا كومة حجارة لا تحدِّث عن شيء.

كَيْ نتقدم؛ علينا أن نتحرك، علينا ألَّا نَحْبُوْا أَوَّلاً!  يكفينا حَبْوًا نصف قرن، علينا أن نخطوَ لنلحقَ بالرَّكْب.

بين تلك المتاهات واللحظات الحرجة أظلُّ واقفةً أبحث في العتمة عن الذات... عن طيف... عن إشراقة... عن أبجدية جديدة، ترمِّم تجاعيد الأوقات برحيق الأمل وتعوِّض السنين المهدورة بنداءات شجية رخيمة، بلحن النانا وقرعات المدافع القابعة أمام همجية الموج على شرايين المحيطات لتنثر بمروج الرقة ورذاذ الذاكرة بين أروقة المكتبات وشروق كل فجر تتشبَّث بإيقاع وسبحات وتنهُّدات الأجداد؛ لتحكي للأحفاد مناجاتهم الملبدة بالغيث وغمغمة الدعاء ليجدوا السكينة بين تلك الليالي المعتمة.

تعليق عبر الفيس بوك