الطائيون القضاة الشعراء (9)

صورة الوطن والمواطنة في شعر الشيخ حمد الطائي

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

عندما تدخل إلى عالم الشيخ حمد بن عيسى الطائي الشعري، وتدور في فلك قصائده، وتسبح في مجرات قوافيه، وتقيل في هدأة النسيم تحت أشجار تصاويره، وتستحم في بحيرة وجدانه، ثُم تخرج لتستظل تحت يقطينة شعره الوارفة، ستجد شاعرا يكتب بأبجدية قلبه المرفرف في سماء الوطن، وترى أديبا يرى بعين يقين عقله، ويجيل النظر في فيحاء أفكاره، ويهشُّ على نجوم المعاني بعصا الحكمة.. انظرْ وتفحّص معنا الأبيات الثلاثة التالية لتكتشف جماليات الصورة الشعرية وما تنطوي عليه من طاقة وطنيّة مشعّة تضيء سماء القصيدة:

«ونحن بني العروبة خير شعب // عناصرنا توحد منتماها»

«إلى شعري ترى الأدباء تهفو // كما تهفو العقول إلى نهاها»

«تخال عروضه كنجوم ليل // تفاخر بالضياء على سواها»

وإذا ما عرّجتَ على مفردة الوطن والمواطنة، بلفظها حينا، وبمعانيها، ودلالاتها، ومراميها وتأويلاتها تارات متوالية في شعر الشاعر الراحل، ستقع عين محبتك على بؤر جمالية تتفصّد من عرق جبينه، وتنزُّ من سنِّ قلمه، وتتقاطر من قلبٍ عصرتْ مهجته تقلباتُ الحياة، وصراعات السياسة، واختلاج الرؤى الموّارة في نفس لا تستكين.. فإذا ما قرأتَ الأبيات التالية تبدّت لك الصورة الشعرية حاضنة لمشاعره الثائرة وفلجا عمانيا لا ينقطع جريانه، ولا تتكدر أمواهه، وتغيض عيونه؛ بل يفيض بالوطنية المتدفقة من منابع أرومته العمانية الخالصة، وفخارا لا ينفك عن ملامح شخصيته المعتدّة  بتاريخ حضارتها المتجذر في أعماق التاريخ:

«كأني وأكليل العلى فوق مفرقي // مليك سما بالتاج وهو فريده»

«لئن كان تاج الملك رصع جوهرا // فإن بتاجي المجد أثمر عوده»

الوطن والمواطنة هنا مصطلحات وجمل شعرية تتناثر كالنجوم المتلألئة في شعر الشيخ حمد الطائي لا يخبو ضؤها، بل يسقط على قلب الشاعر فينعكس أشعة تضيء ظلمات الروح وتستنهض الهمم، وعابرة للمذهبيّة السائلة، وتعلو فوق الطائفية المقيتة، وتدير ظهرها للإثنيات وتناحر الأعراق، وتضحي بخراف الخلافات القبلية على مذبح الحبّ، وتنحاز للعروبة انحياز الأم لولدها، وإغماضة الأب لهفوات صغاره، وتأتي قصائده على شكل نداءات صارخة لإيقاظ الهمم، وإلهاب الوجدان، واستنهاض الأمة من رقدتها، وهزّ شجرة عطائها الذي لا ينضب.. تأمل معنا هذه الأبيات لتكتشف شخصية الشاعر الملاصقة لشخصية وطنه فصورة العمانيّ الأبيّ مطبوعة في سمته ومحياه غير مستكينة وتأبى الضيم، وتطاول غيرها من الحضارات عزّة وأنفةً ولا ترضى الدنيّة في دينها ولا دنياها.

أبني عُمان إلى العلا جدوا الطلب // ودعوا التفاخر بالجدود وبالحسب

وامضوا إلى أعمالكم ببسالة // ودعوا الضغائن فالزمان قد انقلب

وخذوا من التاريخ سيرة قومكم // فيها تسودون الأعاجم والعرب

الوطن في قصائد الشاعر الراحل لا يعترف بحدود الجغرافيا الصماء، ويمزق الأسلاك الشائكة المنصوبة كفخاخ على طول المسافة بين ذوي القربى والأصهار بسيف الحب والحنين، ويعقد حبل الله في عروة وثقى تنتظم فيها الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج بنياط القلب، ويرى في الخرائط والتأشيرات والأختام الرسمية حجر عثرة أمام وحدة الأمة وبدعة لا تُغتفر للسائرين في ركاباها نياما ومعصوبي الأعين.

«عزّ الزمان بأن يغير حالتي // فكأنني في المنار الفرقد»

«ته يا زمان فحسب يومك وصمة // إن الكريم الحر فيه مشرد»

«لا أرتضي ذلا بقرب عشيرتي // بل أبتغي عزا يشط ويبعد»

«فلسوف أقتحم البحار مغامرا // حتى أنال من العلا ما أنشد»

قديما ورد في الأسفار المتناقلة كتابة وشفاهية عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن (الوطن حيث المسرَّات)، والوطن في أدبيات الطائي ذاكرة حية (لا تفنى ولا تستحدث من العدم)، دم وروح يتلظى في جسد عابر للمكان والزمان؛ وقيمة رعوية تسبح في سديم العروبة من المحيط إلى الخليج لا يتهيّب الاغتراب، يمشي الهوينى على أديم نابض بالحياة وطأت ثراه أقدام الأجداد من آدم إلى قيام الساعة.. وهذا مقطع من قصيدته للأديب الموسوعي عبد الله الطائي أحد وزراء أول حكومة عُمانية في مطلع عصر النهضة المباركة يتحدث عن هجراته المتعددة سواحا في بلاد الله ومدافعا عن القيم العربية والعمانية الأصيلة، وداعيا إلى المواطنة الخالصة.  

«كعبد الله من أضحى بحقٍ// رفيع الشأن منعدم المثيل»

«رأى الأوطان فيها كل حر // مهانا والكرامة للدخيل»

«فخاض بحارها وطوى البراري // لينهل منهل المجد الأثيل»

«وقال عُمان: عنك ألا فإني // أسلي النفس بالصبر الجميل»

«كريم أريحيّ قد نماه // إلى العليا سليل عن سليل»

وإذا ما أوجزنا سمات الشعر الوطني والقومي في ديوان (الطائيات) للشيخ حمد بن عيسى الطائي وتفحصنا في سائر نصوصه الشعرية وجدنا مفردة الوطنية تستبين لفظا و معنى، متلفعة بصور بيانية مركّبة من عناصر عدة، وتحلق كطائر العنقاء في سماء جميع القصائد، وتتولّد منها أفكارا شتى، وتأتي مرةً متدثرة بثوب العروبة، ومرة أخرى متلبسة برداء إسلاميّ وسيرة النبي الأعظم، ومراتٍ في حواشي قصائده الإخوانية؛ ولذا نأمل؛ بل نوصي أن تأخذ سيرة الشيخ ومسيرته الشعرية طريقها إلى الدراسات الأكاديمية الفاحصة على أيدي دارسي النقد الأدبي في إحدى الجامعات العُمانية.