عقل مجاز وفكر مُعلَّب

 

عائشة السريحية

يتنفس الصبح وتنتشي الدنيا برائحة الحياة، يغسل وجهه وأسنانه، يرتدي ملابسه بالطريقة ذاتها، يرش عطره على الرسغين وثنيات الأكواع، يشغل سيارته التي نصحه بشرائها جاره، يقضي وقته خلف مكتبه، يتناول غداءه الدسم ويشرب الشاي الأخضر لحرق الدهون، يذهب للسهر مع أصدقائه ويبدأ الحديث الذي ما يفتئ أن يبدأ حتى يتحول لشجار ينتهي بفض الجلسة ويعود الجميع أدراجهم.

عزيزي القارئ، يبدو أنك تقرأ سطورا لحياة روتينية رتيبة لرجل في زمن عادي، لكن ماذا لو غيرنا مسار حياته وجعلناه يعيش في نفس الظروف ولكن بفكر مُختلف، يتسع للبحث والتحري وإيجاد حلول للمشكلات العارضة.

غالبية البشر لا يولون التفكير اهتمامًا، حين يقعون في المشاكل لا يعرفون التصرف الصحيح من الأصح، ولا النافع من الأنفع، يحاولون استراق أو تقليد الأفكار من غيرهم، ليس لأنهم غير قادرين أو أن حجم أدمغتهم أصغر من المعتاد، لكنهم لا يرغبون في التفكير، أتذكر قصة السمكة المطهوة دون ذيل ورأس؟

 سنتذكرها معًا، كانت المرأة تطبخ سمكتها بعد أن قطعت رأسها وذيلها، فسألتها ابنتها: "لم تقطعين ذيلها ورأسها؟"، أجابت: "لا أعرف حقًا لكن أمي كانت تفعل هكذا".

أصرت ابنتها أن تعرف السبب، فقامت بمهاتفة الجدة، وحين سألت عن سبب طبخها السمكة دون رأس أو ذيل، أجابت:" كانت المقلاة صغيرة ولا تتسع لطول السمكة".

إنَّ سماعك للمعلومة ومشاهدتك لها لا يعني أنها الحقيقة المطلقة، وإلا لما كان الوضع عبر العصور يوضح كيف كانت تغسل أدمغة البشر بأفكار جامدة، بل إن كثيرا من المبدعين إبان حكم الكنيسة لأوروبا في عصر الظلمات جعل منهم مهرطقين تحرق كتبهم، ويجبرون على وقف إبداعهم العلمي، ولما وصل العلم لماهو عليه اليوم.

أنت إنسان مفكر ميزك الله بالعقل على سائر بقية مخلوقاته، ولم يجعلك ناقصاً في الإدراك إلا إن كنت تعاني من مرض حقيقي أو علة ما.

إن المعطيات التي يتناولها عقلك تمر عبر حواسك الخمس، ويقوم عقلك بطريقة عجيبة بتحليلها، فليس كل ما تنقله حواسك بالضرورة يكون صحيحا، أو خاطئا، هناك ما يسمى بالخبرة من التجربة وتخزين النتيجة، كأن تعرف بيقين أنَّ النار إن لمستها ستحرقك، ولكنك قد لا تعرف أيضًا أن البرودة العالية تحرق أيضًا!

هذا ما يسمى بالتجربة، وهناك ما يسمى بالقياس، قد ترى شخصا تتشابه ظروفه بظروفك أسس مشروعا ونجح، فيقيس عقلك الأمر وتؤسس مشروعا مماثلا فتخسر، فتدرك بعدها أن القياس خاطئا.

قد تجلس يومًا مع مفوه بليغ أو ممثل مبدع فيضع لك وجهات نظر تجعلك لا تقوم من مقامك إلا وأنت متأثرا وربما مقتنعا بها، أو تأخذ جانبا عدائيا مضادا لرفضك التام لها، ربما لفكر مسبق لديك، أو أن ما طرح جديد كليا عليك.

إن التفكير لا يعني الإنكار، ولا يعني العناد، بل هو تحليل يدور حول مجموعة من الأسئلة"ماذا، كيف، ماذا لو؟" هذه الثلاثية تجعل عقلك يخرج من حالة السكون لحالة الإعصار الذهني، تبدأ بالماهية لتفهم جيداً ماهو الشيء المطروح أمام عقلك، ثم تنتقل للكيفية، فتضع عدة طرق لسببية أو كيفية حدوثه، ثم تطرح أمام عقلك ماذا لو كان الأمر على غير حقيقته؟ ماذا لو كانت هناك وجهة نظر أخرى؟ ماذا لو لم يكن الأمر كما هو عليه الآن؟ عند وصولك لهذه المرحلة ستكون قد فتحت باب الطريق للحقيقة، وتبدأ البحث، وستحصل على إجابة شافية تروي جوع فضولك لمعرفة كل شيء يقع بين يديك.

إن التفكير هو توجيه رباني، والبحث عن كل شيء يوضع أمامنا أو يحاول الآخرون تمريره علينا، يجب أن يدرج تحت مجهر التساؤلات الثلاثية، فلا يقين في الحياة إلا الموت، وماعداه قابل للطرح والاستفسار والبحث، ولا يعني أن س أو ص من الناس تحدث عن شيء ما نتيجة لعلمه ومعرفته أو مكانه أو مركزه أو سلطته أو غناه يجعلك مؤمنا بما يقول! دون إدراك حقيقي لهدفه من وضع معلومة أو خبر أمامك.

وليس ماتراه بأم عينيك عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، هي الحقيقة المجردة، لتعلم أن وراء كل معلومة تبث، قد انطلقت من معامل ومطابخ شارك في إعدادها الكثير، فهي ليست عشوائية تصلك ببساطة على مائدة حواسك لتبتلعها دون أدنى تساؤل قد يخطر ببالك.

لم يستطع أحد إلى هذه اللحظة أن يروي لنا الماضي كما كان، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، أو الماسكون بزمام القوة بمختلف الأزمنة، فكثير من الكتب والعلوم أحرقت ودمرت، وكثير من العلماء أو المؤرخين أو الفلاسفة قد قتلوا في الزمن الغابر عبر قارات العالم، وحتى في عصرنا الحديث ورغم وجود التقنيات والإنترنت، نجد أن المعلومة التي نبحث عنها في محركات البحث قد كتبها آخرون، وليست دليلا قاطعًا على الحقيقة، هم يقولون لك إنها دليل، فتأخذه معلبا وتستشهد به كدليل، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الناس.

التساؤلات تثير البحث، والبحث يؤدي لنتائج، قد لا تكون حقيقية مائة في المائة بسبب أن النتيجة تعتمد على مُعطيات وأدوات البحث، لكنها أفضل من استلامها كما هي.

يقال إن المفكرين الحقيقيين إذا اختلفوا على مسألة ما أشبعوها بحثا وطرحا وتحليلا إلى أن يصلوا لنتيجة مؤكدة، وإن اكتشفوا أنهم كانوا على خطأ اعترفوا، أما إن كانوا على صواب، فلا يتفاخرون ويغترون.

أما في أوساط العامة، أو المتكبرين ذوي الغرور من النخبة، حين يختلفون حول شيء فإنهم يشحذون سيوف المبارزة، ويحولونها لمعركة، قد تنتهي بالشتائم أو الاتهامات، وربما الحروب وتتحول من مسألة مختلف فيها، إلى قضية حرب لا بد وأن يخرج منها طرف خاسر.

إنك حين ترى مجموعة تركض أمامك، ستهرع بالركض، ليس لأنك تعرف ما يركضون من أجله، أو ما قد يهربون منه، لكن لأن غريزة اتباع المجموعة مزروعة فيك.

ولا يعني أن تكون مختلفا، أنهم على خطأ وأنك على صواب،أو تتنازل عن فكرك من أجل التبعية العمياء.

فكرك لك وأفكارهم لهم، ما قبلته وفق تحليلك الذاتي والمنطقي استلمه بابتسامة وأضفه لملف خبراتك، وما كان تدليسا أو كذبا، فلا تجبر نفسك على قبوله، ارفضه ودعه خارج مدينة أفكارك التي تمتلكها أنت، ولا تعطي لأحد مفاتيح مدينتك، فيخرب أجمل ما فيها ويصبح شريكا لك في عقلك.

لأنك إن فعلت ستصبح مشلولا فكريا، وسيوهمونك أنهم يبحثون عن راحتك العقلية، فقط استقبل ما يطرح أمامك دون تفكير، وبعد ذلك ستجد أن مدينة أفكارك قد تم بيعها وتملك صكوك ملكيتها الكثير من اللاعبين على أوتار التفكير الترفيهي، وهؤلاء مهمتهم صناعة الفكرة ثم تغليفها، وتقديمها بطريقة لائقة وخلاقة، ثم يجعلونك تلتهمها، فيزيد جوعك ويزيدون نتاجهم، إلى أن تصبح متبلدا، ترمي جسدك على أريكة تتحرك يديك لتقليب قنوات التلفاز، أو تتصفح عينيك أروقة الإنترنت، إلى أن يغالبك النعاس فتذهب للنوم، وقد يستمر هذا الفعل إلى اللحظة التي ستنام فيها ولن تصحو بعدها.